فوق هام السحب...

TT

العنوان لا علاقة له بالأغنية الوطنية السعودية المعروفة للفنان محمد عبده، ولكنه عن حديث دار بيني وبين زائر غربي للسعودية، في رحلة داخل السعودية على متن إحدى الطائرات. لفت أنظار الرجل، الذي يزور السعودية لأول مرة، كم الإعلانات الكبيرة في الصحف المتناثرة في الطائرة واستفسر عنها فأجبته: «كما تلاحظون أن الإعلانات نوعا ما متشابهة، مما يعني أنها لمناسبة واحدة، وهي تحديدا احتفال السعوديين بيومهم الوطني، وهذه السنة تمر ثمانون عاما على هذه المناسبة المهمة». وبعد أن استمع لإجابتي، عاود السؤال مرة أخرى: وهل هم مجبَرون على الإعلان أم أن هذا دافع شخصي منهم؟ فتنهدت، وأجبته أن قصة السعوديين مع هذه المناسبة قصة طويلة وجميلة، أولا: هم غير مجبرين على الإعلان، وكل من أعلن فعل ذلك بقناعة ودافع شخصي بحت، والاحتفالية الإعلانية التي لفتت نظرك ما هي إلا انعكاس متنامٍ لفرحة السعوديين بهذا اليوم المهم، بعد أن كان مجرد التصريح برغبة الفرحة به يحارَب ويجرَّم ويكفَّر من الكثيرين بشكل هستيري وجاهل، فهناك من ساوى بين الفرحة والاحتفال باليوم الوطني وتزكية روح الولاء والانتماء والمواطنة، والشرك وعبادة الأصنام وتقديسها! وهذه الآراء وغيرها من الممارسات الإدارية والتصرفات الفردية التي قد تتحول إلى فكر وثقافة جماعية - هي التي كانت تعيق تحوّل السعودية من فكرة بلد فريد إلى وطن بديع. فمهندس هذه البلاد عبد العزيز بن عبد الرحمن هو عبقري سياسي فذ بكل المعايير والمقاييس، أقام بالفعل - وليس بالتنظير - مشروعا وحدويا عبقريا جمع بين بادية وحضر، وبين شمال وجنوب، وحجاز ونجد وأحساء، وبين مذاهب وطوائف، وبين ماضٍ وحاضر، وبدأ تطوير مشروع الدولة التنموية الحديثة، وأحاط بمجلسه رجالا من أصحاب العقل والخبرة والحكمة، ولم يكن أبدا مبدأ الاختيار للمنصب والمكانة إلا على الثقة والكفاءة وليس لأي اعتبار آخر، ومن هنا جاءت الانطلاقة السليمة والناجحة جدا، لأن النية كانت سليمة، والقلب نقي، والصالح العام كان الهدف، ولذلك وبدعوة امرأة صالحة وقر في قلبها «شيء» من معرفة النيات الصالحة للملك المؤسس، فتوجهت للحق - عز وجل - بدعائها، كما تقول القصة المعروفة، وفتح الله على هذه البلاد الخيرات، ونبع النفط من أرضها وسخر الله الكون لذلك، فسخر الشركات للتنقيب عنه والشركات لإخراجه والشركات لنقله والعالم لاستهلاكه، ووجِّه الخير في مطلع هذه الدولة الفتية للصالح العام، فبدأ نشر الخير على العامة بالبناء والتأسيس للبنى التحتية من شوارع وطرق ومطارات وموانئ ومدارس ومحاكم ومستشفيات ومجلس شورى... وغير ذلك من مشاريع الدولة المخصصة للوطن والمواطن.

كانت هذه نواة المشروع السياسي العبقري للملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الذي كان يعلم تماما أن أي مساس بسوية العقد الاجتماعي بين المواطن والوطن، أو بين المواطنين أنفسهم وبعضهم البعض، أو الشعور بأي إحساس بالتمييز والتفرقة هو علامة شرخ خطير وبداية تصدع مرعب في جدار الوطن لا يمكن السماح به، لأن نتائجه ستكون فتنة وخيمة، وكان الملك عبد العزيز حريصا دائما على التأكيد قولا وفعلا على هذا الاتجاه. وبعد ثمانين عاما، لا يزال نجله خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يسير على نفس الخط والطريق ويكرس ذات النهج، نهج إرساء الخط الوطني للبلاد، ويصلح ويفتح ملفات «صعبة» حصلت بسبب ظروف مستجدة وتحديات كبيرة.

فها هو اليوم يزكي، بالحوار الوطني، ضرورة المساواة بين أبناء الوطن والابتعاد عن التفرقة والتمييز، وها هو يفتح ملف حقوق المرأة وحفظ كرامتها، وها هو يفتح أكبر برنامج ابتعاث تعليمي في تاريخ الأمم، ليكرس فكرة التعارف والتواصل بين الحضارات ومزكيا قيمة العلم من خلاله، ويفتح ملف الإصلاح القضائي الذي كثرت الشكوى منه وبات هما كبيرا يعانيه الجميع، وها هو يفتح ملف محاربة الفساد والاعتراف بمشكلة الفقر، ويتصدى للفكر الإرهابي المتطرف الجاهل بالكثير من الخطوات غير المسبوقة، كل ذلك يجعل السعوديين فخورين بإنجازاتهم لبلدهم اليافع الذي بات له الموقع المميز بين دول العالم، ولكنهم أيضا حريصون وبشكل أكبر على الحفاظ على تلك المكاسب وتطويرها ودفعها للأمام وتحويل نظرية الملك المؤسس وحلمه عن «وطن» كامل ورؤية الملك عبد الله عن وطن «متكامل»، إلى حقيقة يعيشها الجميع بلا استثناء، وهذا يتطلب مواصلة الجهود بالعمل والمكاشفة والمحاسبة والعقاب والثواب ليكون كل يوم يمر عيدا وطنيا بامتياز. كل عام والسعودية آمنة مطمئنة وبسلام وخير.

[email protected]