محمد أركون: علامة فارقة في درس التراث العربي الإسلامي

TT

أتجنب، ما وسعني الأمر، ذلك التهويل في إطلاق الأوصاف والإسراف في إغداق التقريظ على الأشخاص؛ فلا أزال أعد ذلك من سمات التأخر والإسفاف معا، تلازمان القول العربي أحايين كثيرة. غير أنني أجدني اليوم أقول (فيما أحسب أنه قول صادق، فيما أتمنى على كل، وكذا من واجب الاعتراف بالخير لأهله) إن محمد أركون، رحمه الله، يشكل في درس التراث العربي الإسلامي - أي في النظر إليه قراءة وفحصا وتوظيفا معا - علامة فارقة. والعلامة الفارقة هي تلك التي تضطرك إلى الوقوف عندها وقفة يكون بها التمييز بين ما قبل العلامة وما بعدها. وحديثي اليوم عن محمد أركون حديث عن الجيل الذي أنتمي إليه بحكم العمل الجامعي والبحث الأكاديمي، أقصد بذلك زمرة المنتسبين إلى الدراسات الإسلامية في بلدان المغرب العربي خاصة. لا غرو أن هناك تأثيرا قويا بل أثرا حاسما مارسه على وعي هذه الزمرة المذكورة مؤلف «الإنسية العربية في القرن الهجري الرابع: مسكويه، مؤرخا وفيلسوفا». والحديث عن العلامة الفارقة في سيرورة البحث في الفكر العربي الإسلامي منذ «عصر النهضة»، ومنذ مطالع القرن العشرين على وجه التحديد، يحمل على الاعتقاد بأن هذا البحث لم يشهد سوى محطات قليلة من التطور، فهو بالتالي، لم يعرف من النقلات النوعية في مساره سوى النذر القليل. نقلات كيفية معدودة في مسار تكييف الوعي العربي المعاصر بالتراث العربي الإسلامي تأريخا، ومنهجا، ومقاربة في الفهم والتحليل. والرأي عندي أن المحطات التي مر بها البحث العلمي في التراث العربي الإسلامي في الفترة السابقة على مستهل سبعينات القرن المنصرم محطات قليلة يمكن عدها والإحاطة بها.

عرفت الدراسات الإسلامية محاولات تجديد، قليلة معدودة، توخت التوسل في البحث بمناهج أبانت عن نجاعتها في حقول معرفية أخرى، وفي التأريخ لها خاصة (علم الاجتماع، علم النفس الاجتماعي، التاريخ...). ولعل أبرز تلك المحاولات ما اجتهد في عمله ثلة من أساتذة الجامعة المصرية في أربعينات وخمسينات، وشطر قليل من ستينات القرن العشرين، نذكر منهم - تمثيلا لا إحصاء شاملا - محمود قاسم، عبد الهادي أبو ريدة، عثمان أمين، وعلي سامي النشار، إلى حد ما. غير أن تلك الدراسات ظلت، في مجموعها، محاولات جزئية تنقصها الحبكة ويشوبها نقص المعرفة بالفكر الغربي في مظانه الأصلية ومن ثم فإنها لم تقدر على الذهاب بعيدا في مقارباتها المنهجية فهي لم تفد كثيرا من المكتسبات المنهجية التي تحققت في العلوم الإنسانية.

موازاة مع هذه الدراسات ظهر نوعان آخران من الأبحاث؛ نوع أول تصح تسميته بالمنهج التفاخري أو التمجيدي (وهذا النوع من النظر إلى الفكر لا يملك أن يحيد عن طريق البكائيات والتغني بأمجاد السلف، وبالتالي فهو لا يدفع في التقدم إلى الأمام قيد أنملة. إنه يفيد في العزاء لا في البحث العلمي). ونوع ثان يمكن نعته بالمنهج المقارن مع انعدام شروط المقارنة التي تفيد في المعرفة العلمية. فأما النوع الأول (التمجيدي أو التفاخري) فمبلغ العلم فيه هو القول بأن الفكر العربي الإسلامي، ممثلا في رموزه الكبرى، كان له قصب السبق في العلوم كلها. الحق أننا نجد هذا النوع من البحث، في صورته النمطية وصيغته النسقية الكاملة، عند ساطع الحصري. ذلك أن أبو خلدون (وهو النعت الذي كان يحبذ أن يقرن به اسمه) يأتي بكل عجيب وغريب في كتابه «دراسات في مقدمة ابن خلدون»؛ فصاحب «المقدمة» كان سابقا على جمهرة غفيرة من الفلاسفة والمفكرين الحديثين والمعاصرين (فيكو، هردر، أوجست كونت، مونتسكيو، كارل ماركس...). كما أن مفكرنا الفذ كان، في عين الحصري، سباقا في تشييد صرح علوم جديدة، كثيرة، لم يكن من الممكن قيامها إلا بحدوث تحولات معرفية كثيرة وتوافر شروط اجتماعية وتاريخية متعددة ما كان في الإمكان توافرها في عصر ابن خلدون. وأما النوع الثاني فهو ما نعتناه بالمقارنات الصعبة أو المتعذرة بالأحرى. كذلك تعددت المقارنات بين الغزالي وباسكال طورا، وبينه وبين ديكارت طورا آخر، وبينه وبين هيوم طورا ثالثا. وكذلك توالت أبحاث أخرى تقارن - مع الحفاظ على نفحة قوية من النزعة «التفاخرية» - بين ليبنتز ومحيي الدين ابن عربي وبين أبو حيان التوحيدي تارة وصاحب «المقابسات» وكارل ياسبرز تارة، وكيركيغارد تارة أخرى.

على أننا، إذ نرجع القهقرى إلى مطالع القرن العشرين، نجد عند جيل الرواد جهدا كبيرا في مقاربة التراث العربي الإسلامي، في جوانب منه، إنه جهد يجدر بنا التذكير به حين الحديث عن تطور الوعي بدرس التراث العربي الإسلامي. القصد هنا كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق «تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية»، ثم طه حسين «في الشعر الجاهلي» وفي مجمل دراساته التي أفاد فيها من الدرس الديكارتي في اعتماد الشك المنهجي طريقا إلى اليقين، ومن ثم الدعوة إلى إعمال سلاح النقد وعدم القطع باليقين إلا فيما كان لا يحتمل الشك فيه.

الحق أننا بالتذكير بهذه الأسماء والمؤلفات نكون قد أحطنا، بالجملة - دون الغوص في التفاصيل - فيما يصح اعتباره محطات كبرى في درس التراث العربي الإسلامي وفي تطوير الوعي في النظر إليه. مع أركون سيظهر جديد مختلف ومغاير. فنحن إذ نقرأ «الإنسية العربية».. نجد حضورا قويا لمفاهيم غير مألوفة من قبيل «الشخصية القاعدية» (اعتبار مجال ثقافي مشترك يفعل فعله في تكوين الوعي في فترة معلومة)، «العقل الإسلامي»، و«نقد العقل الإسلامي»...كما أننا نجد أدوات مفاهيمية تستمد من القاموس الابستمولوجي (= غاستون باشلار، ومفاهيم «العوائق المعرفية»، «القطيعة الابستمولوجية»، «اللاشعور المعرفي» - ميشال فوكو ومفاهيم «الخطاب»، «المفكر فيه»، «غير القابل لأن يكون مفكرا فيه»، «الإبستمي» أو البنية المعرفية الثاوية في أعماق «العقل الجماعي...»). ونجد، موازاة مع هذا كله، إفادة غير يسيرة من فتوحات المنهجية العلمية المعاصرة في حقول اللسانية والأنثروبولوجيا والتحليل النفساني وعلم الاجتماع وكذا تقنيات تحليل الأسطورة.. أدوات معرفية توسل بها صاحبها في دراساته الكثيرة وفي مشاريع الدراسات (فأركون كان صاحب مشاريع كثيرة لم تنجز).

لا يتسع المجال لمزيد تطويل، وليس الإسهاب مما تحتمله طبيعة هذه الأحاديث. غير أنني أجمل الكلام فأقول: إن محمد أركون – باحثا ومدرسا ومشرفا على رسائل جامعية - تمكن من إحداث خلخلة في درس التراث الإسلامي، خلخلة فعلت فعلها في تكوين الوعي العلمي وتطويره، فحق القول إذن إنه علامة فارقة. كما أنني أقول، اعترافا بالجميل ودعوة إلى مزيد تمعن في منهجية متعددة الأدوات، إن محمد أركون له شرف الريادة إذ دلنا على أول الدرب وحمل المشعل الكشاف.

رحم الله أستاذنا محمد أركون، محييا للتراث العربي الإسلامي، ومنافحا عنه بلغة العصر، بل ومدافعا عن الإسلام والمسلمين. وقديما قيل: «لا تعرف حقيقة الرجل حتى يموت».