بيان المثقفين المائة ومستقبل الثقافة في مصر

TT

أحدث البيانات السياسية الثقافية في مصر هو بيان المائة مثقف (الواقع هم 102) الذي يحمل وزير الثقافة مسؤولية تدهور الأوضاع في كل ميادين الثقافة المصرية، مما أدى إلى إهمال عام هو السبب في سرقة الآثار وسرقة لوحة فان غوخ من متحف محمد محمود خليل. البيان لا يكتفي بتحميله المسؤولية فقط؛ بل يطالبه بالاستقالة وربما يطالب الحكومة أيضا بإقالته هو وكل مساعديه في الوزارة، وهو الأمر الذي يراه البعض من رابع المستحيلات.

وكان رد الوزير عليهم هو أنه لا يعرف مثقفين بهذه الأسماء، وأنه سأل عنهم اتحاد الكتاب وجاءه الرد بأن خمسة منهم أعضاء في الاتحاد، هكذا بدا الأمر وكأن عضوية اتحاد الكتاب شرط للحصول على لقب مثقف، وهنا يذكرنا الموقف بنكتة قديمة عن أبو العربي البورسعيدي الذي قال له أحد أصدقائه: «أبو العربي.. أنا شفت البت فتحية خطيبتك ماشية مع الواد عبده الميكانيكي..».

فرد عليه: «وهو ده ميكانيكي..؟ ده لا ميكانيكي ولا يفهم حاجة في الميكانيكا».

بلع المثقفون المائة الطعم واندفعوا بعيدين عن أرض المعركة ليثبتوا بكل ما يملكون من حجة أنهم مثقفون فعلا، وتحولت القضية إلى سؤال: ما تعريف المثقف؟ بمعنى أدق.. هل الواد عبده الميكانيكي الذي يمشي مع البت فتحية خطيبة أبو العربي، ميكانيكي فعلا؟ أم انه نصاب ليس له صلة بالميكانيكا؟

ولكن الملاحظ أن «بيان المائة» تجاهل تماما دور الوزير الذي لا ينكر في مقاومة التطبيع الثقافي، كما أنه هو أيضا لم يذكرهم بهذا الدور، وكأن الطرفين اكتشفا فجأة أن هذا الدور ساهم في دمار الثقافة المصرية أو في القليل لم يسهم في انتعاشها، أو لعل الطرفين اكتشفا أنه لا يكفي أن تكون ضد الشياطين، بل عليك أن تثبت للناس بكل وضوح أنك مع الملائكة. غير أن الحسنة الوحيدة لإثارة هذا الموضوع في الصحافة المصرية كان السؤال القديم الجديد الذي سيظل قديما - جديدا إلى الأبد: ما الثقافة.. ومن هو المثقف؟

لعل أهم التعريفات («الشروق» 14 سبتمبر/ أيلول) كانت: المثقف كما يقول الدكتور جلال أمين هو الشخص المهموم باستمرار بقضايا فكرية، أي لديه هم دائم بكل شيء حوله، فيعمل على تحويله إلى قضية تشغله طول عمره. والمعرفة الواسعة ليست شرطا للثقافة أو لوصف المثقف؛ إذ ان الشخص الذي لديه معرفة واسعة ولكن لا يحولها إلى هموم فكرية لا يستقيم أن نطلق عليه لفظ «مثقف».

تعريف الدكتور أمين أقرب لوصف حالة الاكتئاب المرضية، لا يكفي أن تكون مهموما بقضية، لا بد من أن تكون قادرا على معرفة طريق أو طرق لحلها وأن تعلن عن ذلك. ويقول الدكتور عاصم الدسوقي، وهو مؤرخ مختص في التاريخ المعاصر: التعريف البسيط للمثقف، أنه هو ذلك الشخص الذي يعرف من كل شيء شيئا، وشيئا عن كل شيء، ولا بد من أن يكون له موقف واضح. الواقع أننا إذا أخذنا بهذا التعريف فلا بد من أن يكون الكومبيوتر هو أعظم مثقف على الأرض ويكون لصاحب أي كومبيوتر الحق في أن يقدم له طلبا لعضوية اتحاد الكتاب أو المجلس الأعلى للثقافة.

أما الدكتور مراد وهبه أستاذ الفلسفة فيقول: المثقف هو الذي يبحث عن جذور الوهم في المجتمع الذي يعيش فيه ويحاول أن يجتث هذه الجذور، هذا هو دوره ولا يجب أن يعتمد على أي سلطة أخرى.

مع اعترافي بأن تعريف الدكتور هو الأقرب إلى قلبي وعقلي، غير أني في حاجة إلى معرفة، ما طبيعة تلك القوة داخل العقل أو النفس التي تقف خلف الرغبة في اجتثاث الأوهام عندما تتجذر داخل عقول الجماعة وتشكل خطرا عليها؟ هل هو الإلزام الخلقي؟ هل هو الإيمان برسالة ما تفرض نفسها على المثقف؟ وإذا كان من السهل اجتثاث الجذور الضارة في الأراضي الزراعية، فهل الأمر بالسهولة نفسها عند اجتثاث الأوهام الضارة من الطبقات التحتية في عقول البشر؟ أم ان الأمر يتطلب صلابة روحية عالية تساعد المثقف على دخول معارك مع من زرع هذه الجذور في عقول البشر؟ أم إن الأمر يتطلب درجة سامية من اعتبار الذات من ذلك النوع الذي دفع جاليليو للإصرار على فكرته بأن الأرض كروية وليست مسطحة فتكون النتيجة أن يسجن لمدة أربعة عشر عاما ثم يخرج عجوزا محطما ليعلن تنازله عن فكرته؟ أم ان القرار الصحيح من باب الدفاع عن النفس في مواجهة وحوش أوغاد هو: «مين..؟ فين..؟ كروية..؟ مين اللي قال الكلام الفارغ ده..؟ لأ طبعا.. هي مسطحة.. ومنبسطة..».

أنا أعتقد أن عاطفة اعتبار الذات القوية هي ما يجعل من المثقف مثقفا، ولكني لست مع أن يكون المثقف بطلا أو محاربا، دوره فقط هو إلهام المحاربين في الثبات في أي معركة دفاعا عن حقوق البشر في الحرية والحياة الكريمة. أتصور أن دور المثقف هو أن يعلن ما يفكر فيه في تهذيب بغير رغبة في استفزاز خصومه، ثم يتحمل كل ما ستجلبه عليه أفكاره من متاعب.

كل الحسابات السياسية تقطع بأن المرحلة القادمة تحتم على مصر في ميدان الثقافة أن تتخذ نهجا جديدا في علاقاتها مع دولة فلسطين ودولة إسرائيل على الأقل لإعطاء المثقف المصري فرصة للتحقق على المستوى الإقليمي والدولي، وماكينة الثقافة الحالية بكل تروسها عاجزة عن ذلك، من المستحيل أن يفكر كل العاملين في وزارة الثقافة على نحو مختلف وبالتالي سيكون دورهم المقبل كما كان دائما تعطيليا بحتا، للأبد سيعجزون عن فهم المتغيرات في المنطقة، وبالتالي طريقة التعامل معها. ستكون البطولة عندهم إلى الأبد هي معاداة الغرب وأميركا واتفاقية السلام المصري الإسرائيلي، سيفعلون ذلك لأنهم لم يقرأوا في الصحف أن مصر فيها مؤسسات للسلام ومعهد للسلام وظيفته الأولى هي الترويج لثقافة السلام، والجهد المبذول في هذه البطولة يغفر لهم أن تكون الكاميرات وأجهزة الإنذار في متاحفهم معطلة. لن يتغير شيء في وزارة الثقافة، فسرقة لوحة من متحف ليست نهاية الدنيا كما صرح وزير الثقافة في أولى جلسات المحاكمة المتهم فيها رئيس قطاع الفنون التشكيلية وآخرون (الجرائد المصرية في 15 سبتمبر). الله يرحمك يا ماكيافيللي، كان أول من قال: «على الأمير أن يغير طريقته عندما تتغير الظروف، غير أنه لن يفعل، فدائما ما كان ينجح بها». نعم.. لن يستطيع الأمير تغيير طريقته.