باب الغرام

TT

كثيرا ما لاحظت إذا دخلت الحدائق العامة في أي مدينة من مدن العالم - خصوصا في أوروبا - ألاحظ أعدادا كبيرة من الرجال والنساء المتقدمين بالعمر، الذين أحيلوا على المعاش ولا أمل منهم يرجى في مجال العمل الشاق والخلاق. تتجمع هذه الأعداد حول بعضها البعض في حلقات صغيرة، وغالبا ما يكون الرجال على حدة والنساء على حدة - بحكم السليقة - ويقضون طرفا لا بأس به من النهار في حكاياتهم المسلية، وذكرياتهم التي لا يخلو بعضها من المخاطرة والإثارة والتضحية والنجاح والمجون كذلك.

فكل عجوز، كان - أو كانت - في يوم من الأيام (مراهقا وشابا)، ولا شك أن نفسه قد حضته يوما إلى فعل ما تحمد وما لا تحمد عقباه، وهذا شيء طبيعي، والمثل يقول: «ليس هناك شجرة لم تهزها الريح».

وهؤلاء الكبار في العمر لا يجرأون على الحديث والبوح بأسرارهم وما في داخل نفوسهم لأبنائهم وأحفادهم، ولكنهم إذا اختلوا بأقرانهم ممن هم في جيلهم، ساعتها تتفتح (الحنفيات) - واللي ما شاف يتفرج.

مشكلة رعاية المسنين في العالم مشكلة (عويصة) ولا أقول مستحيلة، وقد فطنت إلى هذه المشكلة الدول المتحضرة، وحاولت وما زالت تحاول إيجاد حل لها - أو على الأقل أن تخفف من تبعاتها - ولهذا هي أجرت الإحصائيات والدراسات، وأوجدت دور العجزة، ورغم أن هذه الدور كانت نقلة حضارية إنسانية فإن الصرف عليها كان مكلفا جدا، لهذا أصبحت كالفنادق، فهناك ما هو خمسة نجوم وباهظ التكاليف، وهناك ما هو بنجمة واحدة وهو أشبه ما يكون بملجأ للمشردين، ولدينا في العالم الإسلامي ما كان يسمى: بـ(الرباطات) وهي شبيهة بالملاجئ.

وهذه المشكلة قديمة ومزمنة، ومثلما يقولون: كان على شعب الإسكيمو مثلا وهو الذي يعيش في القطب المتجمد، كان على العائلة منهم أحد خيارين - أحلاهما مر - فهي إذا أرادت مجبرة على الرحيل إلى منطقة بعيدة وصعبة، إما أن تحمل الطعام والسلاح وتترك الأب العجوز يموت، أو أن تحمل العجوز وتترك الطعام والسلاح، ليموت فيما بعد الكل بما فيهم العجوز خلال يوم أو يومين من المسير بين أكوام الثلوج التي لا ترحم.

عدد المسنين الذين تزيد أعمارهم على 65 سنة في أميركا وحدها بلغ 12% من عدد السكان، وبعد عشرين سنة سوف يزيدون على 20%، وهذا يشكل أكثر من 72 مليون عجوز.

وإنني أنصح إذا فكر أحد العجائز أن يقضي بقية حياته في جو هادئ ومفعم بالبهجة، بعيدا عن مشكلات أولاده وصخب أحفاده، فعليه أن يذهب إلى دار العجزة في مدينة (فارل) الألمانية، وهي دار يقيم فيها أكثر من ألف شخص ينتمون إلى 16 دولة، وهذه الدار لها حديقة خلابة لها باب يفضي إلى غابة رائعة، وقد أطلقوا على ذلك الباب اسم: (باب الغرام)، فدائما ما كان الزبائن من كلا (الجنسين) يخرجون متنزهين في تلك الغابة، وكثيرا ما كان (كيوبيد الحب) يصاحبهم في تلك النزهات (البريئة)، وكانت النتائج أن عدة زواجات قد تمت هناك، بل إنه حسب ما قرأت، فمن النادر أن يمر شهر في تلك الدار دون أن تكون هناك حفلة عرس، يأكل ويشرب ويرقص فيها كل من هو في الدار من زبائن ومشرفين ومستخدمين. والشيء الذي أعجبني بالقائمين على ذلك المكان، أنهم في كل سنة يخرجون وينشرون أكثر من كتاب، وكل محتواها ناتج من لقاءات وذكريات وأفكار من هؤلاء العواجيز الذين يعتبرون كنزا للمعلومات والمعرفة في كل المجالات، وكانت تلك الكتب من أكثر الكتب توزيعا ومبيعا إلى درجة أن ريعها هو الذي يصرف ويطور هذه الدار.

ولقد بدأت من الآن أراسل تلك الدار، فالإقبال عليها كبير، وقد لا يأتيك الدور إلا بعد عدة سنوات، (ومت يا مشعل إلى أن يأتيك الربيع).

[email protected]