الدولة البدينة أو الـ«فات ستيت»

TT

الدولة البدينة، غير الدولة المدينة.. الدولة البدينة ليست دولة فاشلة كما قد يتوهم البعض (FAILED STATE)، الدولة البدينة هي الـ(FAT STATE)، فالدول يمكن تصنيفها أيضا كما يصنف البشر من حيث الوزن، هناك السيدة النحيفة، والسيدة البدينة، والسوبر موديل، وكذلك الرجال. الدول أيضا كذلك، هناك الدول النحيفة الرشيقة، التي تحدث أهلها عن قضاياهم المصيرية الداخلية التي تخص رفاهية شعبهم، أما الدول البدينة فهي التي ينشغل أهلها بتوافه الأمور أو الهامشيات التي لا تلبث أن تصبح قضايا مركزية بالتكرار في المجالس. الدولة البدينة هي دولة تقريبا تدخن الشيشة، في حالة استرخاء دائم، لأن أهلها شغلتهم صغائر الأمور، وإذا كان هناك مقياس لاستقرار الدول مثل مقياس ريختر لقياس الزلازل لحصلت الدولة البدينة على عشرة من عشرة في الاستقرار.

لكن ما هي صفات الدولة البدينة، وكيف نطبق المفهوم على منطقتنا؟ الدولة البدينة هي الدولة التي يكون فيها الاستقرار السياسي والاجتماعي طويل الأمد. أنظمتنا في العالم العربي تعاني من زيادة الاستقرار لا من نقصانه، فكما أن هناك مناطق يعاني أهلها من زيادة الوزن، فمنطقتنا تعاني من زيادة الاستقرار. مشكلة المنطقة العربية ليس كما يدعي البعض في الغرب أنها تعاني من القلاقل وعدم الاستقرار، بل العكس تماما، ومع ذلك يروج بعض الإعلاميين العرب أن الأنظمة تقمعهم لأنهم خطر على الاستقرار، هذا النوع من الكلام المبالغ فيه وتافه القول هو واحد من أعراض مرض بدانة الدول. خذ بلدا كمصر مثلا، بلد مستقر منذ خلقه الله حتى الآن، فمنذ أن وحد مينا القطرين عام 4326 ق.م، أي منذ ما يقرب من ستة آلاف سنة. لا شيء هز استقرار مصر، ومع ذلك نسمع في الفترة الأخيرة مجموعات مختلفة تعتقد أن النظام يقمعها لأنها مصدر أساسي من مصادر عدم الاستقرار. موضوع «الإعلامي» الذي يزعزع أمن النظام ويؤرق مضجعه (مضجع النظام طبعا)، وكيف أنه لولا استهداف النظام لهذا الإعلامي لتبدل حال الشرق الأوسط. كل هذا الكلام يحدث في بلد يعاني من تخمة الاستقرار منذ ستة آلاف سنة. تخيل أن مصر، هذا البلد الكبير، ليس مشغولا الآن بمحادثات السلام في شرم الشيخ، ولا بانتقال السلطة، ولا بالانتخابات البرلمانية.. مصر مشغولة بما يحدث للإعلامي، الكبير منه والصغير، فالأسئلة التي تتسيد المشهد الإعلامي المصري اليوم هي: هل أقيل الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير صحيفة الدستور من برنامجه الذي يقدمه على قناة «أون تي في»؟ بالطبع قناة «أون تي في» غير قنوات كثيرة ربما منها ما يمكن أن يسمى بالـ«أوف تي»، أي التي لا يشاهدها الكثيرون. فهل برنامج على «الأون» أو «الأوف» يمكن أن يهز استقرار بلد خصوصا إذا كان هذا البلد على قمة مقياس البدانة؟ هذا هو السؤال الأول. أما السؤال الثاني فهو يخص برنامج «القاهرة اليوم» الذي يقدمه عمرو أديب على قناة «أوربت» المشفرة.. المهم أن الدعاية التي تسيطر في أوساط الصحافة في القاهرة هي أن البرنامج قد أوقف لأنه «يزعزع استقرار النظام»!

الإشاعات التي تملأ الأوساط الصحافية، الإشاعات أيضا في أي دولة، تعد من أعراض البدانة، أي أن انتشار الإشاعات في بلد ما يضعه ضمن ما يمكن تسميته بالـ«فات ستيت». مما يقرب من المستحيل في المنطقة العربية أن يزحزح نظام من مكانه، حتى في أكثر الأماكن التي نتخيل أن بها قلاقل وعدم استقرار.. فانظر إلى العراق، بكل قلاقله لم يستطع منذ ستة أشهر وأكثر أن يقنع شخصا ضعيفا كرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بأن يترك منصبه لغيره ممن يستحقونه حسب نتائج الانتخابات.. أي أنه لا الديمقراطية ولا الشفافية حركت المالكي، وظل الرجل وأعوانه مستقرين في أماكنهم. في هذا الإطار يجب أن ننظر إلى هذا الغبار المتصاعد في مصر عن دور «الإعلامي» الكبير في زعزعة الاستقرار مما حدا بالنظام أن يوقف برنامجه مرة، أو قناته مرة أخرى، أو صحيفته مرة ثالثة.

القصة في حالة قناة «أوربت» وبرنامج «القاهرة اليوم»، كما تقول إدارة مدينة الإنتاج الإعلامي التابعة للحكومة المصرية، هي أن القناة لم تدفع ما عليها من أقساط أو فواتير متأخرة، وقد أنذرت الجهة المختصة القناة، إما الدفع أو إغلاق المكتب. هذه هي الرواية الرسمية، وأميل إلى تصديقها، لأن مكتب «أوربت» بالقاهرة المسؤول عن برنامج «القاهرة اليوم» لم يدفع ما عليه منذ نحو أربعة أو خمسة أشهر مضت، وأوقف البث يوما واحدا، ثم دفعت «أوربت» الفواتير وعاد البث، وظني أن المسألة هي هي هذه المرة أيضا، والغريب أننا لم نسمع الأصوات الإعلامية القاهرية في المرة الأولى لوقف البث تندد بممارسات النظام الديكتاتورية لأنه كمم أفواه «أوربت». لست بصدد الدفاع عن الحكومة، وليست لدي أي منفعة من انتقاد «أوربت»، فمعظمهم أصدقاء لي، ومع ذلك يزعجني كثيرا في عالمنا العربي أن نضع لافتات مختلفة فوق القضايا قبل التأكد من الأمور، فالقضية قد تكون فعلا فنية مثل الديون والفواتير وفجأة تتحول إلى سياسة، ويطلع عليك أحدهم جازما حاسما: «ليس المنع بسبب التأخير في الدفع.. المنع سياسي، لأنه يهدد استقرار النظام».. (يا عم صلي ع النبي)، أنا وأنت نعرف الفولة.

حكى لي ذات مرة أحد رؤساء تحرير الصحف الكويتية، أنه عندما ذهب إلى مصر لكي يعين مديرا لمكتب الجريدة بالقاهرة، قابل مسؤول الإعلام في الأمن المصري، واقترح عليه صاحب الجريدة ورئيس تحريرها اسم المراسل الذي يريد أن يمثله في القاهرة، فقال له مسؤول الأمن: «أنا عندي لك أربعة أسماء كلهم لديهم كفاءة صديقك الذي تقترحه، وأقترح عليك أن تختار مدير مكتبك من بين الأسماء الأربعة التي أمامك». ولم يكن أمام الرجل إلا أن اختار من الأسماء التي قدمها له الأمن.. وهذا يحدث مع الجميع من دون استثناء، فأن تقول إن مراسل صحيفة عربية أو أجنبية من أصل مصري ويعيش في مصر يزعزع أمن النظام فهذه نكتة، لأنه من النظام وليس من خارجه.

إشاعة قفل برنامج إبراهيم عيسى لأنه أيضا يزعزع النظام قد يكون لها أيضا وجه آخر، فربما قد يكون اتفاق صاحب قناة «أون تي في» مع عيسى على أنه اتفاق حصري (إكسكلوسف)، كما يقال عند أصحاب الكار، وقد قام الأستاذ عيسى كما نعرف جميعا بتقديم برامج أخرى على قنوات منافسة.. قد يكون هذا السبب وقد لا يكون، كل هذا في أطار الإشاعات والإشاعات المضادة، ومع ذلك إبراهيم عيسى لديه سنوات طويلة من النضال مع النظام، مرة بجورنال واحد «الدستور»، ومرة بجورنالين «الدستور» و«صوت الأمة»، ومع ذلك لم يتزعزع النظام. القصة بالنسبة لي ليست في شخص الأستاذ إبراهيم عيسى أو الأستاذ عمرو أديب، القصة هي أن نظن واهمين أنه في نظام يعاني من فائض الاستقرار قد يكون الإعلامي قادرا على الزعزعة.

واجب الإعلام اليوم أن يقدم لنا الحقائق، لا أن ينساق حول تسييس كل شيء بدعوى أننا نعيش في ظل أنظمة خائفة وغير مستقرة، فأنظمتنا مستقرة لدرجة التخمة، كل ما نريده هو أن يقدم الإعلام لنا الحقائق، لا أن يسهم في زيادة شحم الاستقرار بعرضه لحقائق مزورة ومزيفة عما يجري، ويسهم في نقل دولته من حالة الدولة الرشيقة، إلى حالة الدولة البدينة أو «الفات ستيت».