الحقائق تظهر فقط من أفواه «السابقين»

TT

قال مايكل شوير، أحد كبار ضباط وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) «السابقين»، في حوار له في برنامج «آخر كلام» على قناة «أو تي في»: «يمكن لثلاثمائة مليون أميركي أن يستيقظوا غدا كي يكتشفوا أن زعيما أجنبيا هو بنيامين نتنياهو، قد قادهم إلى حرب مع إيران، وربما يؤدي هذا أيضا إلى حرب بين أميركا ومعظم العالم المسلم»، محذرا بذلك من حالة الخضوع للضغوط الإسرائيلية التي تعانيها إدارة الرئيس أوباما.

وأضاف شوير: «لا قيمة لإسرائيل على الإطلاق في ما يخص المصالح الأميركية، فهي لا تنتج شيئا نحتاج إليه، ولا تعطينا شيئا نحتاج إليه، ولا يعود علينا منها سوى أنها تجرنا إلى حرب دينية تسعى إليها مع الإسلام».

كما كشفت وثائق مركز محفوظات الأمن القومي، التي تم رفع السرية عنها مؤخرا، أنه بعد ساعات على وقوع اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تحدث وزير الدفاع الأميركي آنذاك دونالد رامسفيلد عن مهاجمة العراق - بحسب محضر لقاء عقد في ذلك اليوم - وطالب رامسفيلد بالحصول على «حجج تظهر علاقة مفترضة بين النظام العراقي السابق وزعيم تنظيم القاعدة». وقد أقرت الولايات المتحدة لاحقا بأن لا علاقة للنظام العراقي السابق بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، ومع هذا مضت في خطتها لغزو العراق. وفي مذكراته، اعترف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني (الأسبق) بأنه «لم تكن هناك أي براهين على علاقة العراق بـ(القاعدة)» أو على «امتلاكه أسلحة دمار شامل»، إلا أن قرار غزو العراق كان متخذا من اليوم الأول لتسلم بوش الابن وفريقه مقاليد الحكم. فهل يجب أن ننتظر، في كل مرة، تقاعد أحد المسؤولين عن اتخاذ قرارات خطيرة كشن الحروب، حتى نعلم الهدف الحقيقي وراء تلك الحروب، التي تم إلباسها في حينها لبوسا لا علاقة له بالحقيقة، أو الواقع، أو الأخطار التي يتم تضخيمها والترويج لها، من أجل تبرير العمل العسكري المتخذ لأهداف وأغراض مغايرة تماما؟ والسؤال الأهم هو: لماذا لا يجرؤ مسؤولون غربيون يتولون قيادة الأمور في بلدانهم، مع انعكاساتها على حياة ملايين البشر في بلدان أخرى، على قول الحقيقة والتصرف وفق ما تقتضيه؟ أم أنهم يصبحون في مثل لحظة غزو العراق منقادين لقوى أخرى لا يجرؤون على مواجهتها وينفذون قراراتها فقط، ذلك لأن هذه القوى قد تزعزع مواقع مسؤولياتهم، وربما تنهي وجودهم السياسي بذريعة أو بأخرى؟

وإذا ما قسنا ما يجري اليوم، على ما جرى في الأمس، نلاحظ أن الدول الست المعنية بالتفاوض حول الملف الإيراني تصرح مرة تلو الأخرى بـ«أنها تفضل الحل الدبلوماسي مع إيران»، كما أن الرئيس أوباما خلال حملته الانتخابية أكد أنه «لا ينوي ولا يرغب في ضرب إيران». من هو - إذن - الذي يدق طبول الحرب ضد إيران؟ ومن الذي يؤجج احتمال شن الهجمات عليها، أو على لبنان كلما لاح احتمال التسوية السلمية في الأفق؟ وما هو أيضا مصدر إثارة الكراهية ضد المسلمين «الإسلاموفوبيا»؟ وما علاقة ذلك بما تحاول إسرائيل تحقيقه من قتل وتهجير وتطهير عرقي وديني للمسيحيين والمسلمين العرب بهدف تحقيق يهودية الدولة كما يروجون؟

هناك عاملان أساسيان يجب الإشارة إليهما هنا، الأول: هو أن ملكية معظم وسائل الإعلام الغربية محصورة في أيدي متعاطفين مع إسرائيل ويحررها أناس مثلهم، ولذلك فإن غالبية المسؤولين في الغرب لا يتجرؤون على قول الحقيقة حين يتعلق الأمر بجرائم إسرائيل، وقد يهمسون في غرفهم المغلقة عن حقائق العنصرية الإسرائيلية، أو يكتبون مذكراتهم بعد أن يغادروا مواقعهم ويصبحوا مسؤولين «سابقين»، ولهذا تلقي المذكرات الشخصية للمسؤولين «السابقين» أضواء مختلفة على ما جرى من أحداث، ولكن العبرة هي في قياس قرارات ماضية، أنزلت الدمار والكوارث بملايين البشر، على احتمال اتخاذ قرارات حالية تؤدي إلى إيقاع العالم في كوارث مماثلة. العامل الثاني: هو أن العرب ما زالوا بمجملهم يتعاملون مع الولايات المتحدة، التي تهب ما قيمته مليارات الدولارات من السلاح لإسرائيل، بالإضافة إلى الأموال الأميركية لتوسيع الاستيطان ودعم المستوطنين، وكأنها جهة حيادية ووسيط نزيه بين العرب والإسرائيليين. وليس عليهم في هذا الصدد أن يمضوا ساعات في البحث ليكتشفوا وهمَ ما يفكرون فيه، بل فقط أن يستعيدوا صورة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون حين وصلت إلى فلسطين المحتلة واستقبلها شيمعون بيريس وأمسكت بيده تمسها بحنان وهي تسير على السجادة الحمراء، وتنظر إليه بمحبة ووئام. وتصرفت وزيرة الخارجية في كل ذلك وكأنها لم تسمع بالتصريحات العنصرية للحاخام عوفاديا يوسف، الذي قال بمناسبة رأس السنة العبرية الجديدة: «فليبتل الرب هؤلاء الفلسطينيين الأشرار الكارهين لإسرائيل بالوباء»، كما أن وزيرة الخارجية لم تسمع المجندة الإسرائيلية عيدين أفرجيل تقول: «أستمتع بقتل العرب وذبحهم»، بعد أن وضعت صورا مشينة لضحاياها من الفلسطينيين معصوبي الأعين ومكبلي الأيدي، مؤكدة «أنها كانت تستمتع بقتل العرب وحتى ذبحهم». كل هذه العنصرية الواضحة التي تترجم إلى ممارسات يومية ضد العرب في فلسطين، لم تلقَ كلمة واحدة من مسؤول غربي يستنكر ما يجري للفلسطينيين، ويدين جرائم إسرائيل، بل يسعون دوما إلى عدم تحميلها مسؤولية إجرامها، إذ أن أشد ما تفوهت به القوى الغربية حيال إسرائيل هو «حثها على إيقاف الاستيطان» أو «تجميد الاستيطان لمدة شهر»، مع أن الاستيطان غير شرعي وفق كل القوانين والقرارات الدولية.

السبب لهذا واضح وصريح، وربما نجد جوهره في مقالة كتبها جيف غيتس بعنوان «كيف سيطر اللوبي الإسرائيلي على السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟»، الذي يوضح فيه كيف يتم التبرع وجمع الأموال للمرشحين السياسيين في الولايات المتحدة، حيث تقوم الـ«إيباك» (وهي المنظمة اليهودية المسيطرة على الكونغرس والتي تسيره كما تشاء لدعم إسرائيل)، بدعوة المرشحين الذين يبدون استعدادهم لخدمة المصالح الإسرائيلية وتقدم لهم قائمة متبرعين قادرة على مضاعفة المساهمات المالية لحملاتهم. ويستنتج غيتس بالقول: «هنا تكمن مخاطر التحالف التي دفعت الولايات المتحدة لغزو العراق، والآن تبحث عن حرب مع إيران، من خلال سماحها لقوى أجنبية أن تعمل كمجموعة ضغط محلية، فإن الولايات المتحدة أخذت تخلط بين المصالح الصهيونية ومصالحها الخاصة».

هذه القراءة، هي التي تفسر لنا اندفاع وزير الدفاع الأميركي، أن يحتج على ما هو متوقع أن يكون صفقة صواريخ دفاعية من روسيا إلى سورية، بعد أن أعلن الكيان الإسرائيلي عن احتجاجه على هذه الصفقة، مع أنه مدجج بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل. هذه القراءة لعملية احتلال إرادة القادة الأميركيين والأوروبيين من قبل منظمة صهيونية تمتلك المال والإعلام، تدعو على الأقل إلى التأمل والتفكير وتغيير منهجية ربط الأحداث وتحليلها واستقراء النتائج. وفي هذا الصدد، فإن جامعة أكسفورد قد أعلنت عن نيتها افتتاح كلية جديدة لإعداد قادة العالم في المستقبل بتمويل من رجل أعمال أميركي، فهل سيكون هؤلاء القادة كسابقيهم خاضعين لمزاج التمويل من اللوبي الصهيوني؟ أم سيعيدون إلى الأذهان فكرتنا عن قادة كرسوا ذواتهم لخدمة الحق والعدالة وترفعوا عن عالم المال والأعمال بحيث لا ينتظرون ليصبحوا قادة «سابقين»، من أجل قول كلمة حق في مذكراتهم ومقابلاتهم الصحافية أو التلفزيونية، بعد أن يكونوا قد أسهموا في إشعال حروب أودت بحياة ملايين البشر؟ هنا بالذات، تكمن مأساة شعب فلسطين وباكستان وأفغانستان والصومال، والخطر الذي يهدد إيران والسودان واليمن، مأساة يغذيها جبن القادة أمام إغراء المال الصهيوني وابتزاز الإعلام الإسرائيلي، وعدم امتثالهم للضمير الإنساني ولمصالح شعوبهم التي يفترض أنهم يمثلونها!!