تأريخ على الرمال!

TT

قد تتوتر علاقات الدول ببعضها دفاعا عن تاريخها. تركيا ترد دبلوماسيا بقوة على من يقول إن الدولة العثمانية ارتكبت مجزرة ضد الأرمن في الأناضول، تعتبر أن مصطلح الإبادة الجماعية لا يعكس الحقيقة التاريخية بأن قتلى الأرمن لا يتجاوزون بضعة آلاف كانوا في قنوات التماس بين روسيا والدولة العثمانية وراحوا ضحية الحرب العالمية الأولى كغيرهم. أما الأرمن فينظرون إلى هذه المسألة كحقيقة تاريخية مسلم بها، وأن قرابة مليون أرمني تمت إبادتهم على يد العسكر العثمانيين. حتى عندما يريد أحدهم استفزاز قومية ما، يقوم بطعنهم في تاريخهم، كما فعل أحمدي نجاد حينما قال إن الهولوكوست، المحرقة، هي وهم اخترعه اليهود ليستجدوا به عطف العالم.

كل الأمم تدخل حروبا إعلامية أو ثقافية أو دبلوماسية ضروسا دفاعا عما تعتبره إرثها وتاريخها ورموزها القومية، أما العرب، سواء الباردة أو المتبردة، فتقف وقفة الصنم أمام محاولات تشويه أو تحريف أو إخفاء متعمد لأحداث مهمة من تاريخها، بل وتاريخها الحديث الذي لا يزال بعض من شهدوا أحداثه أحياء يرزقون. أما لماذا ذلك فلأن من يقومون بهذا الفعل الجريء هم من تصفهم الأمة العربية بأنهم مؤرخوها!

مصيبة كبيرة أن من يقومون بتزوير التاريخ العربي الحديث هم مؤرخوه!

أنا لم أشهد أحداث نكسة 67، ولكني أحمد الله كل يوم أن هناك شهودا «شافوا كل حاجة»، وتحدثوا بما يعرفونه من خلال وجودهم في قلب الأحداث، هم مسؤولون كبار من العسكريين والسياسيين، خرجوا في أفلام وثائقية وبرامج حوار رصينة ليشرحوا مواقف عاشوها بحكم عملهم في ساحة المعركة، معترفين بالهزيمة وشارحين أسبابها بموضوعية وصدق، لأنهم يدركون أن الكلمة أمانة، وستحاسبهم الأجيال العربية على كل ما يتفوهون به.

لكني شهدت حرب الخليج الثانية، عشت حالة الهرولة إلى القبو المصمت هربا من صاروخ عراقي محتمل في أي وقت، تعلمت كيف أرتدي الكمامة تحسبا للسلاح الكيماوي، تهشم زجاج منزلي بفعل صاروخ سقط بالجوار، وبيدي حملت بقايا صاروخ سكود من أحد مواقع سقوط الصاروخ. واليوم، يخرج علينا من ينكر ما عشناه، أو جزءا منه!

عفوا.. لا أستطيع أن أمحو مساحة من عمري.

منذ أكثر من أربعين عاما ومحمد حسنين هيكل يحكي عن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، ولو كان يحكي كل يوم من أيام الأربعين سنة هذه عن يوم من أيامه مع عبد الناصر لكان الكلام قد انتهى، ولكن هذه القصص تتوالد وتنمو تفاصيل جديدة لها في كل مرة. رقية السادات، صرحت مؤخرا بأن ما لمح به هيكل من أن والدها الرئيس الراحل أنور السادات وضع السم لجمال عبد الناصر في فنجان القهوة الذي أعده له بنفسه، لا يعدو كونه «تخاريف». الواقع أن هذا الموقف من هيكل ليس مستغربا، ولكن السؤال المهم هنا هو: لماذا لا يزال هيكل حيا إعلاميا بعد نكسة 67؟! من مصلحة من الحفاظ على توابع الزلزال؟! بعد الحرب الفضيحة كيف للمسؤول الإعلامي الأول في تلك الفترة، الذي كان يملك صوت الحرب، وصوت الرئيس، ويفترض أن يملك صوت الحقيقة، كيف له أن يجد عربيا واحدا يستمع له بعد أربعين عاما من هزيمة لا تزال المنطقة العربية تعاني من نتائجها حتى اليوم؟! ما الفرق بين محمد حسنين هيكل ومحمد سعيد الصحاف وزير الإعلام والناطق الرسمي لحكومة صدام حسين البائدة الذي توارى عن الأنظار خجلا من كذبه؟!

لا يزال هيكل يحكي قصته الشخصية مع عبد الناصر، وتمتمات وهمسات وأسرارا لم يسمعها غيره، يقولها كحقيقة لا جدال فيها، ويبني عليها مواقف دول وأحداثا كبرى في المنطقة تحصل اليوم. إن أحدا من السادة المستمعين أو المشاهدين لهيكل لم يغضب، أو يعترض، ولا أعرف هل السكوت هنا علامة للرضا أو اللامبالاة!

الخيال الخصب صفة مهمة لشخص الفنان أو الشاعر، ولكنه عيب معنوي خطير في شخصية المؤرخ، عليه أن يجتهد كثيرا ليخفيه. الشاعر يعتصر خياله ليستفز الكلمات، المؤرخ لا يعتصر شيئا، بل يتناول ما هو حاضر وجاهز على أرض الواقع. ودون قصد الربط بين المناسبتين، تأملوا ما تشدو به أم كلثوم - رحمها الله - بعد أيام من نكسة 67 أمام الجمهور العربي العريض، الذي صفق طويلا للكلمات:

أيها الساهر تغفو .. تذكر العهد وتصحو

وإذا ما التأم جرح .. جد بالتذكار جرح

فتعلم كيف تنسى.. وتعلم كيف تمحو!

* كاتبة وأكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

[email protected]