السجال السني الشيعي

TT

تشهد الساحة السياسية والإعلامية العربية في السنوات الأخيرة انفجار طفرة هائلة من السجال السني الشيعي، لم يعد يقتصر على بعض مواقع الإنترنت أو حتى الصحف والمجلات المكتوبة، بل امتد إلى شاشات التلفزيون والفضائيات، وهو سجال يركز في الغالب الأعم على الجوانب العقائدية والأسس الكلامية للمذهبين. أما السلاح المستخدم هنا، فهو استدعاء النصوص والمدونات، ثم العودة إلى أحداث الماضي البعيد بكل جراحاته وندوبه الغائرة، سواء للذب عن المذهب، أو لتبكيت الخصم وبيان تهافت مقولاته، وهكذا يتحول هذا السجال السني الشيعي إلى ضرب من التراشق بالنصوص وتنازع حول الشرعيات والتاريخ.

ما يزيد في خطورة هذه السجالات الكلامية، دخول معطى جديد على الخط، هو الإعلام الفضائي والإلكتروني العابر للحدود والقارات؛ ففي ظل عالمنا الراهن المعولم لم يعد ثمة شيء سري أو خاص بأبناء الجماعات الحصرية. فما يكتب وينشر حتى في بعض المواقع المحلية، أصبح من اليسير أن يطير في الهواء وتتداوله ألسنة وأقلام الخاصة والعامة في شتى أصقاع الأرض، وربما يثير مشكلات وصراعات لا حصر لها. خذ مثلا ما نشر وما زال ينشر في موقع «مركز الأبحاث العقائدية»، الذي يرعاه السيد السيستاني الذي يعد اليوم أحد أهم مراجع الشيعة، فقد ورد ضمن الأجوبة على أسئلة المقلدين أن «الذي لا يعتقد بإمامة أحدهم (أي الأئمة المعصومين عند الإثني عشرية) على حد الشرك بالله، وأن من يموت ولا يعرف إمام زمانه يموت ميتة جاهلية، ويكون من الهالكين الخالدين في جهنم».

ربما مثل هذه المقولات والفتاوى ليس فيها ما يثير الشعور بالغرابة والدهشة أصلا، لشدة تكرارها وتداولها بين جمهرة الطائفة، ولكن من المؤكد أنه حينما يقرأها «الآخرون» تبدو شديدة الاستفزاز والاستهجان، ليس أقله أن يجد المرء نفسه داخلا في عداد الكفرة والمشركين المخلدين في نار جهنم، لكونه لا ينتسب إلى هذه الطائفة ولا يؤمن بوجود أئمة معصومين.

نحن لا نتحدث هنا عن فتاوى معزولة لبعض علماء دين نكرة، بل عن موقع تحت إشراف أحد أهم وأكبر مراجع التقليد الشيعة، وإذا كانت بعض الآراء التكفيرية والاستفزازية تصدر عن بعض الجماعات السنية المتعصبة والطائشة، وتلقى استهجانا ورفضا من عموم الجسم الإسلامي السني، فالأحرى والأولى بكبار علماء الشيعة أن يشعروا بعظيم المسؤولية عن ما يقولون ويكتبون، وأن يكونوا أكثر اتزانا في الموقف واقتصادا في القول حينما يتعلق الأمر بقضايا خلافية قديمة.

الكل يعلم أن الخلاف السني الشيعي هو في جوهره خلاف سياسي حول قضايا السلطة أو الإمامة وقع منذ القرن الأول للهجرة، وقد تحول بعامل الوقت إلى خلاف عقدي بعدما انفرد كل مذهب بمقولاته وتأويلاته وبرواته ومحدثيه، وصنع لنفسه مخياله الجماعي الخاص. وربما ينطبق هذا الأمر على الأقلية الشيعة أكثر من غيرهم، الذين بنوا على هذا الخلاف السياسي أصولا وعقائد تدور حول «دراما» مقتل الحسين رضي الله عنه، ومقولات الأئمة المعصومين والوصية وعودة المهدي وما شابه ذلك، وتشكل تبعا لذلك نسيج معقد من المؤسسات والهيئات الدينية وشبكة من المصالح المادية المرتبطة بها.

طبعا هذه حقائق يعرفها جيدا المؤرخون والمحققون، ولكن من الصعب جدا على أتباع الطوائف أن يضعوها موضع مساءلة، لسبب بسيط هو أن الإنسان ليس في نهاية المطاف آلة عقلية صارمة ومحايدة، بل هو مزيج مركب من العقل والمشاعر والهوى، تدخل عناصر كثيرة في تشكيله، في مقدم ذلك التربية الاجتماعية وما يسمى بالثقافة المهيمنة. فالناس يحيون ويموتون داخل المذهب والطائفة أو القبيلة في الغالب الأعم من دون أن يطرحوا أسئلة حول ما يتلقونه أو يرد على أسماعهم من المحيط ومن الآباء والأجداد. نعم هناك قلة من الناس قد يقطعون هذه المسافة ويتجرأون على تجاوز الخطوط العابرة للمذاهب والطوائف، ولكن ما يصح على الأفراد لا يصح ضرورة على الهيئات والجماعات.

ولذلك، من الأفضل الخروج من هذا المربع أصلا، أي الابتعاد ما أمكن عن المناكفات النصية والعقائدية، وترك القضايا الخلافية لأهل الاختصاص من المؤرخين والمحققين، ثم إعطاء فسحة للزمن ليفعل فعله. ومن العبث هنا تصور أن يهجر أبناء المذاهب أو الطوائف معتقداتهم وما ألفوه من تصورات لمجرد أن زيدا أو عمرا قد شكك فيها أو استدل على تناقضها وعدم انسجامها. هذا وهم لا وجود له إلا في رؤوس بعض الشغوفين بسجالات الفضائيات.

الخلاف السني الشيعي أمر واقع في الجسم الإسلامي لا يمكن إنكاره، كما أنه لا يمكن إرجاع عقارب الساعة إلى الخلف أو العودة إلى نقطة الصفر. فمنذ القرن الأول للهجرة، أي منذ ما اصطلح على تسميته «الفتنة الكبرى»، انقسم المسلمون بين أغلبية سنية وأقلية شيعية، وقد مر اليوم على هذا الخلاف ما يزيد على 14 قرنا، وليس من المعقول أو المنطقي أن تتحمل أجيال القرن الواحد والعشرين وزر ما وقع في القرن السابع أو الثامن الميلادي.

كما أنه يتوجب التوضيح هنا بعيدا عن هذه التصنيفات الحصرية المغلقة، بأنه ليس كل شيعي يمثل بالضرورة امتدادا لعلي والحسين، وليس كل سني هو امتداد لمعاوية، فمثل هذه «العلامات المسجلة» التي ابتدعتها الطوائف مثلما ابتدعت سردياتها ورؤيتها الخاصة للأحداث والنصوص، لا تعبر بالضرورة عن الواقع التاريخي الأكثر تعقيدا وتركيبا. بيد أنه ليس ثمة ما يبرر لنا اليوم أن نبقى أسرى بعض السرديات المذهبية، أو نحمل أعباء التاريخ الثقيل فوق ظهورنا، وظهور أبنائنا وأحفادنا.

ما يحتاجه العالم الإسلامي اليوم وفي ظل حالة الهيجان الطائفي الذي تطلقه قوى التعصب ومثيرو الفتن على الجبهتين هو الانتقال من النصوص إلى السياسة والاجتماع، أعني بذلك الخروج من هذا المربع السجالي أصلا في اتجاه تأسيس ما يمكن تسميته بميثاق تعايش عام بين مختلف المكونات الدينية، ولا أقصد هنا تدوين نصوص أو مواثيق مكتوبة بقدر ما أقصد تنظيم أسس وآداب العيش المشترك بعيدا عن كل أشكال النفي، ونبذ ثقافة الشقاق والأفكار الفتنوية الرائجة.

كما أن للسياسة النصيب الأوفر في تحريك عوامل الفرقة والشقاق، فإنه يمكن أن يكون لها دور في اتجاه مداواة الجراح، والتخفيف من حمأة الصراعات. كلنا يذكر أن ما حرك عوامل الفرقة والمنازعات الطائفية بين العراقيين لا يعود إلى كونهم قد اكتشفوا فجأة وبغير سابق إنذار أن هنالك سنة وشيعة أو عربا وكردا، ولكن لأن لعبة السياسة والسياسيين قد دخلت على الخط لتوظيف عنصري الطائفة والعرق. وقد اكتشف ساسة العراق اليوم كم هو خطير الذهاب بهذه اللعبة إلى النهاية، خاصة بعدما تغيرت مواقع التمييز وأصبح ضحية الأمس في موقع جلاد اليوم.

ما ذكرناه سابقا يقتضي قطع خطوات ضرورية من الطرفين السني والشيعي على السواء في اتجاه تخفيف الاحتقان الطائفي والشحن المذهبي، وفي مقدمة ذلك الضرب على أيدي قوى الجهالة والتعصب على الجبهتين، ومن ذلك الكف عن سب الصحابة الذي أضحى بضاعة رائجة بين بعض الجهلة من الشيعة، مع ما يصحب ذلك من استفزاز واسع لما يزيد على 80% من عموم المسلمين، وعلى الجهة الأخرى نبذ التكفيريين من المجموعات السنية الذين لا يستنكفون عن إخراج المسلمين الشيعة من الملة، واستخدام لغة القذف والتجريح في حقهم، من قبيل «الروافض» و«الباطنيين» وما شابه ذلك، من لغة مسفهة. هناك اختلاف في تأويل النصوص وقراءة التاريخ، وعلى كل طرف أن يرتب بيته على هذا الأساس، بعيدا عن كل وجوه التجريح والقذف.

المطلوب فعلا هو أن تعود المذاهب إلى وضعها الطبيعي باعتبارها مدارس واجتهادات في الفقه والدين، وليست أساسا لتنظيم الاجتماع السياسي، وهي اجتهادات مشروعة ومأجورة إن هي التزمت بأدب الحوار وتجنبت لعبة التكفير والتفسيق واستحلال دماء الآخرين. لا يضير المرء أن يشعر بأنه سني أو شيعي أو عربي أو كردي أو بربري، ولكن بشرط أن لا تكون هذه العناصر مقياسا للانتساب الوطني أو في اكتساب الحقوق والواجبات.

أتصور أن المعادلة المذهبية في العالم الإسلامي ستبقى مستقرة إلى أمد بعيد ولقرون قادمة، بين أغلبية سنية وأقلية شيعية. وربما اكتشفت إيران بنفسها قبل غيرها أن دعوتها التبشيرية الشيعية في بعض الأقطار العربية والإسلامية ربما أكسبتها بعض الأفراد والمجموعات هنا وهناك، ولكنها في نهاية المطاف لن تغير من التوازن المذهبي شيئا يذكر، أي بين أغلبية سنية مقابل أقلية شيعية. لقد حكم الشيعة الفاطميون في مصر وشمال أفريقيا لقرون متتالية من الزمن واستخدموا كل ما بحوزتهم من وجوه الإكراه والعنف، ولكن لم يبق لهم أثر يذكر في المنطقة؛ اللهم إلا بعض العادات والأعراف الشعبية، كما أن بعض التيارات السلفية الجامحة التي حاولت أن تقضي على المذاهب وتفرض رؤيتها النمطية الخاصة على عموم المسلمين لم تصمد أمام واقع التعدد الفقهي والمذهبي الواسع الذي ما زال قائما من إندونيسيا إلى موريتانيا.

إن الرؤية السنية كانت أقدر على الصمود والانتشار ليس لأنها بالضرورة الأكثر تماسكا وقدرة سجالية أو زخما تبشيريا، بل لأنها كانت أكثر توازنا في رؤيتها للتاريخ وقراءة النصوص، ومن ثم أقدر على تأسيس الإجماع العام. بيد أنه يتوجب هنا العودة بمفهوم أهل السنة والجماعة إلى سياقه السليم والدقيق، باعتباره يشمل الأغلبية الساحقة من المسلمين، وليس مجرد جماعة صفوية حصرية على نحو ما تروج اليوم الجماعات المتشددة المغلقة، كل المسلمين هم أهل سنة وجماعة، إلا من وضع نفسه خارج هذه الدائرة الواسعة والعريضة.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية