الاضطراب وليد الانقلاب!

TT

وصلتني هذه الرسالة الطويلة من السيد خالد بكر أيوب من أربيل في العراق، يتهمني فيها بالتجني على «14 تموز»، ويستعرض منجزات الثورة في عهد عبد الكريم قاسم. بالطبع هذه المنجزات غير خافية علي. ويعتبر ذلك العهد بلسما ونعيما بالنسبة إلى ما تلاه من عهود، ونكن جميعا احتراما كبيرا لقاسم ونزاهته وإخلاصه. بيد أنك يا سيد بكر تخلط بين التفاصيل والعموميات، أو مايكرو الأحداث وماكرو التاريخ، الأشجار والغابة. كل ما جاء به عهد قاسم من منجزات، بناء مساكن، رعاية ذوي الدخل المحدود، الإصلاح الزراعي، حقوق المرأة.. يعتبر من التفاصيل (الشجيرات) التي تجعل الكثيرين منا يعمون عن مشاهدة الكل (الغابة)، والكل هو أن انقلاب قاسم قتل الشرعية وفتح الباب للمغامرين من كل من يستطيع أن يتآمر مع شلة من الضباط لإسقاط أي نظام قائم، ثم الاستئثار بالحكم، وهو ما جرى بالضبط.

يعتز الشيوعيون بثورة قاسم لأنه، مثلا، أفرج عن رفاقهم في السجون وأعطاهم بحبوحة من الهيمنة والنفوذ لعدة أشهر. لكنهم في اعتزازهم هذا لا يرون أن ذلك كان المقدمة لسحقهم ومحقهم من الخريطة السياسية كليا مع كل أنصارهم من اليساريين. الحقيقة أن حكم قاسم بكامله كان الفصل الأول للتراجيديا التي انتهت بفاجعتها الحالية. ما سبب خروج الشريحة المتعلمة وتشردها غير انهيار الشرعية والقانون والأمن في البلاد؟! ما الذي أعطى هؤلاء المجرمين والسلابين والخاطفين والحرامية حق القيام بما يقومون به غير شعورهم بأن كل إنسان حبله على غاربه، وله أن يستعمل القوة في نيل ما يريد؟! كل هذه الشنائع حلقات تسلسلت من قيام شلة من الضباط بانقلاب «14 تموز» وتصفيق الجمهور لهم واستحسانه بهم. إذا كان للضابط أن يخرج بدبابته ويستولي على الحكم، فلم لا يحق للعاطل أن يخرج بخنجره ويسلب الناس؟!

ربما يبتهج الأكراد أيضا بالثورة لأنها في الأخير، عبر الموت والدمار، أدت إلى حصولهم على الاستقلال وحكومتهم الخاصة وجلوسهم على الكراسي الرئاسية.

بيد أن كل هذه التطورات، بما فيها الحكم الذاتي لكردستان، وانتقال الحكم إلى أيادي الشيعة، كان بالإمكان الحصول عليها تدريجيا وسلميا في إطار الشرعية واحترام القانون وإقامة الديمقراطية. انظروا إلى خريطة العالم وتذكروا كل التطورات التي جرت في شتى البلدان، بما فيها زوال الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية وقيام أنظمة ليبرالية وانسلاخ شتى القوميات من حكم موسكو دون إراقة الدماء أو قتل الشرعية.

الاعتراف بالخطأ فضيلة. أعطانا كاسترو مثلا جيدا قبل أيام عندما اعترف بأن المنهج الشيوعي الذي اتبعه قد فشل. كنت من أشد المتحمسين لثورة «14 تموز» وعدت إلى العراق للمساهمة في مدها وحاولت، ولكنني لم ألبث أن شعرت بعد أشهر قليلة بفشلها وخطئها، وحركني شعوري هذا إلى العودة من حيث جئت. من يدع التكلم باسم الشعب فعليه أن يستمع إلى ما يقوله الناس في الشوارع والمقاهي والمجالس، وما يقولونه هو: يا ليتنا ما زلنا في عهد الملكية!