أين الاستراتيجية العربية في الصراع الإقليمي؟

TT

ماذا تعني الاستراتيجية (strategy/ strategie)؟ منذ أصولها اللاتينية والإغريقية، فالاستراتيجية تعني «فن إدارة الحرب». غير أنها في القرن الماضي، غادرت معسكرها الحربي، لتتموضع – مع الاعتذار من تموضعات جنبلاط – في موقع أوسع في العلاقات الدولية. نستطيع اليوم أن نتحدث، مثلا، عن استراتيجية نوري المالكي التي أخفت، بنجاح يُحسد عليه، مشروع «دولة القانون» تحت عمامة «دولة الطائفة».

وهكذا، فالاستراتيجية في السياسة الدولية تعني، في معناها الأوسع، المشروع السياسي للدولة. تعني التخطيط الثابت، على المدى البعيد، في السياسة. الاقتصاد. الدفاع. المجتمع. في الدولة الديمقراطية، استراتيجية النظام قد تفترق قليلا عن استراتيجية الدولة. لكن تنطبق معها في الخطوط العامة.

من هنا، فهذه الـ«شيزوفرانيا» الانفصامية، مكنت الديمقراطيات الغربية من اللجوء إلى «تكتيكات» في سياساتها الدولية، كما في القضية الفلسطينية، تختلف أخلاقيا عن التزامها الاستراتيجي المعلن، برومانسيات حقوق الإنسان. ومثاليات العدل والمساواة...

في الدولة الشمولية، أو الأوتوقراطية، لا وجود لانفصام بين دماغ الدولة، ودماغ النظام. هنا المشروع السياسي المعلن، هو الاستراتيجية التي تطبقها الدولة والنظام في الداخل والخارج.

الطرافة هي في سذاجة الدماغ السياسي العراقي. فقد استعجلت انتفاضة رشيد عالي الكيلاني وضباطه الأربعة الرهان على ألمانيا النازية (1941)، فيما كان السوريون (القوتلي. مردم. سعد الله الجابري) أكثر ذكاء وحذرا. الفضل للزعيم الشهيد عبد الرحمن الشهبندر الذي فضل باكرا «جهنم» تشرشل، على «جنة» هتلر.

أحسب أني أختلف مع وجهة نظر عامة تظلم العرب، عندما تدعي أن نضاليتهم النهضوية كانت فاشلة. الواقع أن العرب حققوا، على المستوى السياسي، نجاحا باهرا. لم يتمكنوا من إقامة دولة الوحدة القومية. لكن أقاموا دولة الوحدة المستقلة والسيادية. بل نهج النظام العربي استراتيجية ثقافية استعادت ألق اللغة العربية، قبل أن تطفئه مرة أخرى «آنساتي. سيداتي» مذيعات الفضائيات الناطقات بالعربية. فقد ألغين، من قواميس عواجيز مجامع اللغة العربية، الضاد وأخواتها الطاء. الظاء. تاء التأنيث التي رفعنها ألفا ممدودة كساق قارئة الأخبار.

لولا الصحافة الورقية العربية، لتكلم العرب لهجات محلية، سوف تتحول رويدا. رويدا إلى لغات مكتوبة، يروج لها مثقفو الحداثة في لبنان وبعض بلدان المغرب العربي. الصحافة العربية تحافظ على حد أدنى من الفصحى. هذه الفصحى المبسطة ستختفي. في نهاية القرن الحالي، سيضطر أبو مازن عباس إلى الاستعانة بقواميس ومترجمين للحوار مع خالد مشعل المقيم في غزة، أو دمشق، أو طهران، حول ضرورة المصالحة بين فتح وحماس.

تردي الاستراتيجية اللغوية لا ينفصل عن تردي الاستراتيجية القومية، نتيجة لتمسك 22 دولة عربية باستراتيجياتها السياسية الوطنية في علاقاتها الدولية والإقليمية. بمعنى آخر، ففي الصراع الإقليمي الملتهب في المشرق والخليج، بات الحديث عن استراتيجية عربية قومية نوعا من التحسر على انحسارها وغيابها، فيما تبدو الاستراتيجيات الأخرى، كالإيرانية. التركية. الإسرائيلية. الأميركية أكثر حضورا!

هذه الاستراتيجيات الأعجمية تتزاحم. تتصارع. على ملء الفراغ الذي تتركه غيبة الاستراتيجية العربية الواحدة. بل هي تسعى، إلى التحالف مع الاستراتيجيات العربية الوطنية، بحيث بات الحديث مألوفا عن محور سوري/ إيراني. أو سوري/ تركي. أو عراقي/ فارسي. أو أميركي/ لبناني. وآخر أميركي/ فلسطيني...

قد تقول لي هناك المحور السعودي/ المصري الأقرب إلى تجسيد استراتيجية عربية قومية. غير أن هذا المحور الفضفاض يتعرض إلى التعثر، نتيجة منافسة محاور خليجية ومشرقية له، تسعى إلى تعطيل دوره، لا سيما بعد ابتعاد سورية، وإيثارها التنسيق مع تركيا وإيران.

منذ استدارتها من الشمال إلى الجنوب، فتركيا هي الرابح الاستراتيجي الأكبر. الاستراتيجية التركية تعتمد الليبرالية الاقتصادية والسياسية والمهادنة أسلوبا للممارسة الدبلوماسية والانتشار التجاري. نعم، تعرضت تركيا إلى نكسات، لكنها باتت صاحبة النفوذ والتأثير في سياسات الآخرين. ساهم أردوغان في إقناع بشار بمواكبة المسعى السعودي للتهدئة في لبنان. والتواصل مع الأردن. وإعادة سفيره إلى العراق. وربما ساهم في إقناعه بلجم حماس عن القيام بعمليات انتحارية، ضد المفاوضات الفلسطينية/ الإسرائيلية المتعثرة.

الهدف الاستراتيجي لتركيا إقامة ما يشبه سوقا اقتصادية مشتركة مع دول الهلال الخصيب (سورية. العراق. الأردن. لبنان) تلعب فيها تركيا دور القاطرة التي يحرك ازدهارها الاقتصادي اقتصادات هذه الدول. مع إمكانية ضم إيران إلى هذه السوق. بصرف النظر عن العقوبات الاقتصادية الدولية، والقنبلة النووية.

إلى متى يستمر الوئام التركي/ الإيراني؟ إيران بحاجة الآن إلى تركيا، أكثر من أي وقت مضى. نجاد تأكله نار الغيرة من العلاقة السورية/ التركية. لكنه مضطر، لأسباب سياسية واقتصادية، إلى السكوت عن الوصال التركي/ السوري. وهو ينتهز كل مناسبة للمرور بدمشق، للتأكد من استمرار الزواج السوري/ الإيراني.

نجاد سيزور لبنان في الشهر المقبل، ردا على الزيارة الرفيعة السعودية/ السورية لهذا البلد. ربما يسعى إلى تهدئة زعل سورية من «حزب الله» الذي يحاول «خربطة» السلام السعودي/ السوري فيه.

لا شك أن نجاد يشهد تعثر الاختراق الإيراني للعرب. بعد انقلاب حزب الله على محكمة الحريري الدولية، صمتت الأصوات العربية التي صورت حسن الحزب خليفة بعمامة لناصر. وجاء الانفجار المدوي لشتيمة «زلم» إيران للعصر الراشدي والسيدة عائشة، بمثابة «دش بارد» على مصداقية «المدد» الذي يقدمه نجاد وخامنئي للقضية الفلسطينية.

أوباما عاود الوصل مع سورية، عبر إيفاد «حامل الهوى» المتعب جورج ميتشل. غير أن الحديث عن انسحاب سوري من إيران، قبل الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، هو من قبيل السذاجات الأميركية/ الإسرائيلية المعهودة.

سورية لن تقبل بشرط تفاوضي مسبق كهذا الشرط. لكن الانسحاب السوري من إيران قد يتم بهدوء، بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجولان. عودة الوصل السوري مع العراق يندرج في إطار جهود بشار لإبقاء إيران حليفا بعيدا، وليس جارا قريبا، عبر هيمنة إيرانية على النافذة العراقية المطلة على سورية.

هل يمكن تعزيز دور الاستراتيجية المصرية/ السعودية في المشرق العربي؟. «رغي» المعارضة المصرية ضد نظام مبارك يشغل مصر عن دورها القومي المطلوب في المشرق. أما السعودية فتملك فرصة أكبر: في استطاعة الدبلوماسية الشعبية أن تواكب دبلوماسية «الصمت المهذب» التقليدية.

في جعبتي اقتراحات قد تكون مفيدة: فتح مراكز ثقافية سعودية في سورية. لبنان. الأردن. مصر. وتبادل الزيارات واللقاءات الشبابية، لتعريف الأجيال العربية الجديدة بالتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي أهل السعودية لكي تغدو مركز الثقل السياسي والمادي العربي، على الرغم من «حواديت» هيكل في «الجزيرة».

أيضا، الإعلام السعودي بحاجة إلى مركز دراسات وتوثيق ومؤتمرات، تموله الدولة، لكي يقدم المعرفة والمعلومات، عن منطقة حافلة بألغاز السياسات، ومليئة بالثغرات والفخاخ لغير العارف بها.