تلاميذ الشيخ محمد عبد الوهاب يقودون حركة التحديث في السعودية

TT

اتخذت احتفالات المملكة العربية السعودية بيومها الوطني هذا العام طابعا حضاريا جديدا، حيث شهدت السعودية تطورا هاما خلال السنوات القليلة الماضية، أدى إلى تغيير الكثير من الأفكار والعادات التي كانت سائدة منذ قيامها في 23 سبتمبر (أيلول) 1932. فقد واجهت السعودية تحديا خطيرا لنظامها وعقيدتها، عندما قامت مجموعة من الشبان بالاعتداء على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، وتبين أن 15 شابا من بين المعتدين الـ19 كانوا يحملون الجنسية السعودية. ارتفعت أصابع الاتهام للمملكة على أنها أصبحت منبعا للفكر الإرهابي الذي يهدد سلامة العالم بأكمله. كما دل التأييد الكبير الذي حصل عليه تنظيم القاعدة بين الشباب السعودي وبعض الدعاة في تلك الفترة، على مدى الخطر المحدق بالدولة السعودية نفسها. يقول عبد الملك بن أحمد آل الشيخ: «واجه السعوديون منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 وإلى اليوم، أسئلة كثيرة عن إشكالية استقرار بلادهم وعن مستقبلها في عالم جديد بدأ يتشكل بعد ذلك التاريخ.. كما راهن المقامرون وأرجف المرجفون باسم الإصلاح، على قدرة هذه الدولة (المملكة العربية السعودية)، على الاستمرار في البقاء بعد ذلك الحدث». («الشرق الأوسط» 21 سبتمبر 2010).

وبلغ الخطر ذروته في الثاني عشر من مايو (أيار) 2003، عندما شنت «القاعدة» هجوما على ثلاثة مبان سكنية في مدينة الرياض، أدت إلى مقتل وإصابة أكثر من 200 شخص، مما قلب المعايير بالنسبة للحكومة السعودية. وتبع هذا الهجوم عدة مواجهات مباشرة بين قوات الشرطة السعودية ومقاتلي تنظيم القاعدة، في مناطق عدة من المملكة. عندئذ أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز - وكان وليا للعهد حينذاك - الحرب على «المنحرفين والضالين»، التي وصفها بأنها تمثل صراعا بين الخير والشر - ليس فيه حياد أو تردد. وبينما ظهر بعض الدعاة في تلك الفترة الذين تعاطفوا مع المتمردين، فقد وقفت المؤسسة الدينية بقوة خلف ولي العهد، وتم استبعاد المتطرفين وإعادة تثقيف الباقين.

منذ ذلك الحين راح تلاميذ الشيخ محمد عبد الوهاب يتناقشون ويتدارسون في أسباب انتشار التطرف بين الشباب السعودي، وكيفية معالجة هذه الظاهرة التي تهدد المجتمع. ففي بداية القرن التاسع عشر عندما بدأ الشيخ محمد عبد الوهاب نشر دعوته، كانت المؤسسات الدينية في الجزيرة العربية قد تدهورت إلى حد كبير، حيث انتشرت التكايا العثمانية التي كانت تضم العاطلين من الدراويش والتنابلة، كما صارت قبور الأولياء مزارات للمسلمين ومكانا للدعاء والتبرك. في هذه الظروف حارب الشيخ هذه العادات السيئة التي وجدها منتشرة في عصره، والتي اعتبرها بدعة وعودة إلى عبادة الأوثان. وقد أدى تحالف الشيخ مع آل سعود إلى القضاء على السلوك الديني الذي يعاضد تعاليم الإسلام الحنيف، وتوحيد نجد والحجاز في الدولة السعودية الجديدة.

أما الآن - بعد نحو قرنين من بدء دعوة الشيخ عبد الوهاب - فقد واجه المسلمون خطرا جديدا، حيث ظهرت جماعات متطرفة تعارض التعاليم السمحة للإسلام، مما يتطلب موقفا جديدا من تلاميذه. وبالفعل ظهر عدد كبير من تلامذة الشيخ محمد عبد الوهاب، قاموا بتفسير الأصول الدينية بما يتناسب مع الظروف السياسية والاجتماعية الجديدة، التي تواجهها السعودية في العصر الحديث. وأصدر مفتي السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، فتوى تخاطب الشباب السعودي وتحرم الضلوع في عمليات الجهاد بالخارج، دون موافقة الحاكم. وصرنا نقرأ في الصحف ونستمع في لقاءات «تلفزيون العربية»، لعلماء الدين السعوديين وكأننا نستمع للشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني في عصر النهضة الفكرية في مصر. وأصبح رجال الدين يشجبون العنف ويدعون إلى احترام المرأة والأجانب وعدم التعرض لهم، كما جرى تعديل المناهج الدراسية في المملكة التي صارت تتحدث عن مبادئ التسامح والعدل وتقبل الآخر. كما قام رجال الدين بإدانة الهجمات التي يقوم بها بن لادن ضد الأمة السعودية ومنطلقاتها الفكرية والآيديولوجية، مما أعطى حصانة للنظام السعودي.

ورغم الجهود الكبيرة التي قامت بها أجهزة الأمن في التصدي لدعاة الانحراف والضلال، فإن دور رجال الدين كان حاسما في تغيير فكر الشباب وابتعادهم عن التطرف. فقد قامت وزارة الداخلية - بمشاركة مجموعة من رجال الدين وعلماء النفس - بتطبيق برنامج إعادة تأهيل لعناصر تنظيم القاعدة الذين تم اعتقالهم، بهدف تحويلهم إلى مواطنين معتدلين ينبذون الفكر المتطرف، حقق نجاحا كبيرا بين المضللين من الشبان.

وتغيرت النظرة إلى السعودية عندما أطلق الملك عبد الله مبادرة للحوار بين الثقافات، حتى يتم التواصل والتفاهم بين شعوب العالم - مما يمكنها من التعايش سلميا في ما بينها وحل مشكلاتها عن طريق التفاهم بدلا من الصراع. كما نادى الملك بالحوار بين العالم الإسلامي والغرب، ودعا إلى مؤتمر عالمي للحوار بين الأديان، انعقد في مدريد عاصمة إسبانيا في يوليو (تموز) 2008، وشارك فيه نحو 200 شخصية من رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود. ثم دعا الملك بعد ذلك إلى مؤتمر دولي ثان لحوار الأديان، انعقد هذه المرة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، وشارك فيه مندوبون يمثلون أكثر من 80 دولة.

وهكذا نرى أنه، بينما أدى التحالف بين آل سعود والشيخ محمد عبد الوهاب إلى القضاء على عوامل الضعف في الفكر الإسلامي التي كانت سائدة منذ مائتي عام، فقد أدى التحالف بين تلاميذ الشيخ وحكام آل سعود إلى دخول مرحلة جديدة لتوضيح الصورة الحقيقية لسماحة الإسلام، وحماية الدولة السعودية من جماعات الضلال. وهذا ما أكده عبد الملك بن أحمد آل الشيخ في جريدة «الشرق الأوسط» بقوله: «واجهت السعودية تلك الإشكاليات بترسيخ وحدة الدولة.. كما مضت قدما في سيرة التحديث المتعقل.. استفادوا من الفكر الإسلامي وتسامحه وقدرته على التطوير ودعم الشخصية الحضارية للإنسان.. إن ثقافة الاحتراب والتكفير والتخوين والتمييع والتجهيل قد أرهقت عقل إنسان العالم الثالث، العربي والإسلامي منه خاصة».