(عن آخر روايات القصيبي) وحشٌ يسمى ألزهايمر

TT

«أقصوصة»، كتبها د. غازي القصيبي قبل وفاته بأسابيع، قرأتها مرتين: الأولى شغفا بإسقاطها على ما أعرفه عن هذا المرض الوحش، كما كتبت في جريدة الشرق الأوسط (2010/3/27م)، والثانية لأستطلع ما إذا كانت مع ما فيها من خيال تصوّر حالة مرّت عليه في محيطه الأسري، إذ من عادة بعض رواياته أن تخلط الحقيقة مع الخيال، والواقع بالصور الأدبية، ولعل من النادر أن تجد قصة كهذه مبنية على العلوم الطبيعية والبحتة لا يكون لكاتبها تجربة معها.

فجأة تحول القصيبي في روايته الوداعية الأخيرة هذه، من كاتب رومانسي إلى راوٍ خيالي ممزوج بالنفسي والطبي والتراجيدي، صوّر من خلالها قصة زوج حَالَ فقدُ الذاكرة عنده بسبب ألزهايمر دون أن يتذكر اسم العطر المفضل عند زوجته، فيدرك أنه المرض الخبيث ذاته الذي قد تصاب به ذاكرة من يقارب السبعين (وهنا نتذكر أن القصيبي توفي عن هذا العمر)، فيتوجه للعلاج في أحد المراكز الصحية المتخصصة في هذا الداء في أميركا (جامعة جورج تاون).

وهنا يعرّج القصيبي، في فصول قصيرة، على تاريخ هذا المرض الذي اكتشفه الطبيب الألماني (ألويس ألزهايمر 1906م)، ويصفه بأنه تلفٌ يصيب خلايا الدماغ بالتدريج عند المسنين، فيسمى باسم مكتشفه، بينما كان يعرف في الثقافة الشعبية العربية باسم الخرف أو العته الذي يعود بصاحبه طفلا، أو إلى أرذل العمر، كما ورد وصفه مرات عدة في القرآن الكريم.

اثنا عشر فصلا قصيرا، يقرؤها الجالس في ساعة، والمسافر في رحلة، رسائل يوجهها الزوج من مشفاه إلى زوجته، ينتقل فيها بلسان من اختلطت عليه الأمور بعد أن أزال ألزهايمر نقوش لوحة ذاكرته، فبدأ بالتوهان، ونسيان القديم، ثم الأحدث، وهكذا إلى أن يصل به الأمر إلى عدم تمييز من حوله، وما يحيط به من الأشياء، وصف المرض مرة بأنه وباء أرستقراطي، وأن صفوة الصفوة قد أصيبوا به من علماء وقادة ونجوم سينما وغيرهم مستشهدا بالرئيس الأميركي ريغان الذي وصف المرض متندّرا بأنه مرض جميل تقابل فيه الأشخاص أنفسهم، وتظن أنك ترى وجوها جديدة كل يوم.

وفي بعض هذه الفصول يخلط شخصية الرواية - الأُقصوصة (يعقوب العريان) وبأسلوب مشوق، بين السياسة وتحوّلاتها والمجتمع وتقلباته، ثم يعود لوصف حال المصابين بالمرض ومعاناة من يوالونهم من ذويهم، مصوّرا بإبداع أعراضه التي تميّزه عن غيره من أنواع الخرف، وكأن القصيبي يعايش حالة بعينها من بين أقرب ذويه، مشكّكا في مقدرة الحب وكذا الإيمان في أن يمدّا من هم حول المريض بالعزيمة الدائمة لتحمّل مأساة الرعاية الدءوبة، وهو مع تصويره الدقيق الموجز لشخصية المصاب والتهيّؤات العصبية والنفسية التي تعتريه، والحركات والتصرفات غير المألوفة التي يبديها على مدار يقظته، فهو يستشهد ببعض الكتب الغربية التي صدرت عن مرض ألزهايمر، ومنها كتاب (إلينور كوني 2004م) بعنوان: «الموت بسرعة بطيئة» عن مذكرات ابنة ووالدتها مع الوحش الذي يسمى ألزهايمر، وكتاب آخر لقسيس أميركي (روبرت دانيس 1989م) أصيب بالمرض في مرحلة مبكرة نسبيا من عمره، فحاول أن يلجأ إلى الإيمان، في معركة ضارية بين الإيمان والنسيان.

وتنتهي الرواية القصيرة بورشة عمل يلتقي فيها الأطباء المتخصصون في هذا المرض في مركز جامعة جورج تاون مع المرضى ومن يتولون رعايتهم يشرحون فيها المراحل الثلاث المبكرة والمتوسطة والمتقدمة التي يمر بها المصابون، وخصائص كل مرحلة، مع تقرير أن الطب لم يستطع حتى الآن إنتاج عقار يصدّ تقدمه في المرحلتين الأخيرتين، مما يعني أن حالة من التشخيص المبكر قد تفيد في منع تدهوره، ولا بد لقارئ الرواية التي تلامس واقع مرضى ألزهايمر من أن يخلص إلى أن الإفصاح عن حالة المريض في الأسرة يمثل البداية العملية في إسداء العون له.

وعندما أراد القصيبي أن يطلق رصاصة الرحمة على مريضه الذي تخيله بطلا لروايته، أو لعله أطلق رصاصة شفقة بالقارئ، أعلن في النهاية عن موت الزوج بنوبة قلبية مفاجئة لم تكن لها علاقة بالوباء الذي عانى منه.

بالنسبة لي، لم أكن أمام رواية، ولم أقرأ أُقصوصة أو خيالا، بقدر ما كنت أقرأ حقائق طبية، وُضعت في قالب يحقق التوعية والإعلام عن المرض بأسلوب واقعي وجذاب.

إنه نمط مختلف في الرواية العربية لم يطرق كثيرا، خدم به القصيبي، رحمه الله، أصدقاء مرضى ألزهايمر وجمعياته الخيرية في عالمنا العربي، حتى تصل إلى المستهدفين من القراء وذوي المصابين، وتحث همم المتخصصين والمسؤولين الصحيين، على أن يُولوا هذه الشريحة من المسنين وهذا المرض المجهول - المعروف ما يستحقه من أولوية واهتمام.

* بمناسبة اليوم العالمي لمرض ألزهايمر

** باحث وإعلامي سعودي