أخطر رجل في العالم

TT

لمن تعدوا سن الستين مثلي، سوف يتذكرون ذلك الفيلم الذي مثله الممثل الكوميدي الشهير وقتها «فؤاد المهندس» تحت اسم «أخطر رجل في العالم»، حيث كان رجلا لا يشق له غبار، ويستطيع إرهاب أعتى المجرمين في العالم، بينما يستطيع تجاوز كل أجهزة المخابرات والبوليس التي عرفتها البشرية. وبغض النظر عما يثيره الفيلم من ضحكات، فإن ما يتبقى منه في الدراسات الاجتماعية هو وجود مثل تلك الشخصية التي تتجاوز العقل والمنطق، ويتولد لديها إحساس زائف بالقوة والمنعة، ومن ثم فإنها على الأغلب سوف تورث من يتصل بها كثيرا من النوائب والمصائب.

ولا أدري لماذا تذكرت الفيلم، وأيامه، عندما شاهدت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد وهو يتحدث من فوق منبر الأمم المتحدة، كما لو كان رئيسا للدولة العظمى الوحيدة في العالم. وكما لو كان حريصا في كل حديث له على أن يفاجئ القوم بأمر مدهش، كان له ذات مرة حديث خافت مع المهدي المنتظر، ومرة أخرى كان حديث عن «الهولوكوست» الذي لم يحدث أبدا؛ أما هذه المرة فقد كان عن أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 صنيعة أميركية نتيجة انقسام جار وجرى داخل الإدارة الأميركية. مثل هذا الأمر الأخير ليس جديدا بالمرة، فقد تناولت مصادر كثيرة وتبنت النظرية التآمرية لما جرى في ذلك اليوم المشهود، بل إن مصادر أميركية يمينية مغرقة في إيمانها بالنظريات التآمرية التي يقوم بها اليهود أو البريطانيون أو الرأسمالية العالمية قالت به مثل ليندون لاروش وحركته السياسية. وكان ذلك دائما يعد نوعا من التراهات العالمية التي تأتي من هوامش الفكر الإنساني، حتى على الرغم من الاعترافات التي جرت، والدلائل التي تمت، وعمليات الإرهاب التي تم تخطيطها وتنفيذها على النطاق العالمي في الأقصر ونيروبي ولندن وباريس، حتى تكاد لا تترك عاصمة ولا حاضرة دون أن يكون لها فيها بصمة من دماء ونار.

ولكن الكارثة هذه المرة لم تكن فقط من فكر مريض، ولكن من رئيس دولة لديه جيوش ومخابرات وأجهزة أمنية لا عدد لها ولا حصر، ولديه موارد يضعها كلها في تنمية طاقة عسكرية متصاعدة، وبين أصابعه قدرة آيديولوجية تمزج الدين بمعاداة إسرائيل والقضية الفلسطينية، فيجني تعاطفا لم يحصل على قدره أمثاله ممن استغلوا قضية العرب الأولى للقيام بمغامرات عالمية، كلفتهم وكلفت شعوبهم الكثير. وببساطة فإن الحماقات التي قام بها صدام حسين عندما قام بغزو الكويت، بعد إعلانه مباشرة عن الاستعداد لحرق نصف إسرائيل، فحرق الدولة العربية كلها بدلا منها، تبدو الآن صغيرة بينما يجرى حرق العراق وتهديد دول الخليج بأشكال مختلفة تحت الغطاء الكامل للحديث عن الحقوق الفلسطينية.

الحالة هذه صعبة ومعقدة وربما تجعل الفترة المقبلة بالغة الخطورة، فربما كان واحد من السيناريوهات السلمية أن يمضي الزمن بسلام، حتى تكون الانتخابات الإيرانية المقبلة، وساعتها ربما يفرز النظام الإيراني واحدا آخر، أكثر عقلانية، وهو ما جرى من قبل عندما أتى برفسنجاني، ومن بعده محمد خاتمي، وساعتها ربما يكون هناك أخذ وعطاء، حيث العقل والرشد سبيل الجميع. ولكن مثل هذا السيناريو يظل في علم علام الغيوب، ولا يمنع من وصول «أخطر رجل في العالم» الآن إلى التسلح النووي، وساعتها فإن الضحية الأولى لن تكون الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية أو الغرب المقيت أو حتى إسرائيل، وإنما الدول العربية القريبة في الخليج، حيث يوجد «المجال الحيوي» الإيراني، أو هكذا يعتقد أهل طهران الذين هم تحت قيادة تعتقد أن لها صلة مباشرة مع المهدي المنتظر، ولديها قدرة على إعادة صياغة وتأليف التاريخ من جديد.

الخسارة الكبرى، أو التي لا تقل أهمية، هي أن العالم كله لا يزال متوترا من التيارات المتعددة والراديكالية في العالم الإسلامي، وما عليك إلا أن تأخذ التصريحات التي تطلقها حركات طالبان المختلفة، وتضيفها إلى إذاعات أسامة بن لادن مع بعض من شرائط الدكتور أيمن الظواهري، مع عدد من كتب ومواقع الإخوان المسلمين ومواقفهم من المرأة والأقليات الدينية المختلفة، وفوق ذلك كله تصريحات الرئيس الإيراني؛ فإذا بك تواجه بخلطة تؤكد تصورات مسبقة ومحرفة ومعوجة عن الإسلام والمسلمين والدول الإسلامية. والمدهش أنه على كثرة الحديث في العالم الإسلامي عن ضرورة مواجهة الذين اختطفوا الدين الحنيف، أو حث العالم على الفصل بين الإسلام والإرهاب، أو التأكيد - عن حق - على أن العالم الإسلامي كان أكثر من عانى قتلا وتدميرا من العمليات الإرهابية، وهو ما تظهره المؤشرات والأرقام والواقع في العراق والصومال واليمن والسودان وغيرها من الدول؛ فإن الموقف مما يفعله أخطر رجل في العالم لا يوجد فيه إلا الصمت أو الابتسامة المهذبة.

المسألة ببساطة على الوجه التالي: إن أحمدي نجاد ليس شخصية تقوم بممارسة عملها من خلال فيلم قد يكون كوميديا أو تراجيديا، وإنما هو رئيس دولة يملك أدوات كبيرة للعنف. ومن الجائز جدا أن النظام الإيراني يوجد داخله ما يكفي من العقل والمعرفة بحقائق العالم، مما يجعله يضبط النزعات غير المنضبطة لرئيس الدولة. كل ذلك جائز، وهناك بالتأكيد من يعرف أكثر، ولكن أيضا لا يمكن استبعاد أن تكرار الشطط كثيرا ما يؤدي إلى الإحساس بمنعة زائفة، وربما إلى تصرفات حمقاء، أو إلى استخدام للعنف يقوم على حسابات خاطئة، كما فعلها الشيخ حسن نصر الله من قبل. هذه المرة فإن الحسابات الخاطئة لن تكون فيها صواريخ محدودة القدرة، أو حملات عسكرية ينتفض لها المجتمع الدولي، لكي يوقف فيها إطلاق النار، وإنما سوف تكون فيها طاقات عسكرية جبارة، وربما تكون فيها اشتباكات نووية أو فيها أشكال من أسلحة الدمار الشامل.

الثابت حتى الآن أن الغرب والولايات المتحدة، خاصة، لم تترك أحدا يقول لها إن عليها أن تشرب من مياه البحر الأبيض وإذا لم يكن ذلك كافيا فإن عليها الشرب من البحر الأحمر أيضا؛ أو تتسامح مع دولة يقول قائدها إنه سوف يحرق نصف إسرائيل، أيا كانت ظروف الكلمات أو مناسبتها؛ فالأرجح أن ما يقوله الرئيس الإيراني لن يكون مجرد كلمات يطبقها ممثل في فيلم كوميدي، وإنما هي كلمات سوف تعد جادة، خاصة عندما ترتبط بأسلحة نووية، ومعها حركات تعد في العالم الغربي محسوبة على حركات إرهابية. المسألة ببساطة أن العالم يأخذ الكلمات التي يطلقها قادة دول بجدية كاملة، وعندما يحدث ذلك للأسف في منطقتنا فإنه يقلبها رأسا على عقب. اللهم قد بلغت.