القاتل الجديد

TT

الأسبوع الماضي انعقد مؤتمران؛ أحدهما في واشنطن، والآخر في لندن، شارك فيهما خبراء ومختصون في مجال الأمان والسلامة ومسؤولون ورجال شرطة، للبحث في كيفية التصدي لقاتل يحصد الأرواح بالآلاف، خاصة بين الشباب، لكنه لا يوفر الفئات العمرية الأخرى. والغريب أن هذا القاتل يجد المساعدة منا إلى درجة تصل إلى حد المشاركة في توفير الظروف لوقوع الجريمة، حتى ولو كان الضحايا أحيانا هم أقرب الناس إلينا.

أمام المجتمعين في المؤتمرين كانت هناك تقارير وإحصائيات تشير إلى أن التقنيات الجديدة والإهمال يقفان وراء ارتفاع مقلق في عدد ضحايا القاتل الجديد في الطرقات، وأن هناك حاجة إلى سن مزيد من القوانين لمواجهة الأمر. هذا القاتل هو الهاتف الجوال ومشتقاته وأخواته.

صحيح أن الجوال أصبح سمة من سمات العصر رغم أن الدراسات العلمية لا تزال متضاربة حول تأثيراته الصحية المباشرة على المستخدمين، كما أنه بات «ضرورة» سواء لقضاء الأعمال أو للتواصل بين الناس أو للاطمئنان على الأطفال إذا كانوا خارج البيت، أو لطلب الإنقاذ والمساعدة إذا واجه المرء أمرا طارئا أو حتى إذا ضل الطريق؛ ولكن مثله مثل أي تقنية أخرى، فإن استخداماته تحتاج إلى تبصر وتعقل حتى لا يضار الناس من الجوانب السلبية فيه.

في لندن استمع المشاركون في «المؤتمر العالمي للسلامة» إلى تقارير تشير إلى أن مكالمات الهاتف الجوال أثناء قيادة السيارات أو حتى أثناء عبور المشاة للشوارع تجعل الإنسان أكثر عرضة للحوادث التي يكون بعضها مميتا. والأمر نفسه ينطبق على استخدام أجهزة الموسيقى النقالة مثل «آي بود» التي تشتت الانتباه وتفقد الإنسان القدرة على سماع حركة السير حوله، خاصة أن هذه الأجهزة مربوطة بالأذنين عن طريق السماعات. وارتفعت نسبة الشباب بين سن 16 إلى 19 الذين يموتون في حوادث سير بنسبة 16 في المائة في بريطانيا مقارنة بما كانت عليه قبل 15 عاما، ويعود السبب في كثير من هذه الحوادث إلى قلة التركيز وتشتت الانتباه نتيجة الاتصالات الهاتفية بالجوال أو إرسال وتلقي رسائل نصية أثناء قيادة السيارة.

أما في واشنطن، فقد أشار مسؤولون من إدارة أوباما شاركوا في القمة الثانية التي خصصت لبحث موضوع سلامة الطرق وظاهرة تشتت الانتباه أثناء القيادة، إلى ارتفاع ملحوظ في عدد وفيات حوادث الطرق المرتبطة باستخدام الهواتف الجوالة. وأوردت الإحصائيات أن خمسة آلاف شخص قتلوا في حوادث سير في أميركا العام الماضي كانت ناجمة عن «تشتت التركيز والانتباه» بسبب التحدث في الهاتف الجوال أو إرسال وقراءة رسائل نصية أثناء القيادة. وعلى الرغم من أن ثلاثين ولاية أميركية بالإضافة إلى واشنطن لديها قوانين تمنع الرسائل النصية أثناء القيادة، كما أن هناك ثماني ولايات تمنع السائقين من استخدام الهواتف الجوالة المحمولة باليد، فإن نسبة 81 في المائة من الأميركيين قالوا في استطلاعات مختلفة للرأي العام إنهم استخدموا الهواتف الجوالة أثناء قيادة السيارة. وكان لافتا أن نسبة 84 في المائة ممن شملتهم الاستطلاعات أقروا بأن استخدام الجوال أثناء القيادة يزيد من مخاطر الحوادث، مما يؤكد أننا صرنا معتمدين تماما على هواتفنا الجوالة ولا نستطيع مقاومتها حتى مع إدراكنا للمخاطر.

الاستهتار في قيادة السيارات أمر مرعب، إلا أنه في حالة التعامل مع الهواتف الجوالة يصبح الأمر انتحاريا، خاصة أن الكثيرين منا يعتقدون أنهم سائقون ماهرون بما يجعلهم قادرين على التحكم الكامل في التركيز والقيادة مع استخدام الجوال. إذا كنت من هذه الفئة، إليك ما تقوله الدراسات العلمية؛ فاستخدام الهاتف الجوال أثناء القيادة، حتى ولو كانت المكالمة عن طريق «البلوتوث»، يتسبب في تشتيت الانتباه، ويؤثر على القدرة في التحكم بالسيارة، والإحساس بما يدور حولنا. فالدماغ عندما يتعامل مع أمرين يقوم بهما الإنسان في اللحظة ذاتها، يكون أداؤه أقل مما لو تعامل مع وظيفة واحدة. وعندما يتعامل المرء مع الهاتف الجوال سواء بالكلام أو بالرسائل النصية أثناء القيادة فإن القدرات الوظيفية للدماغ تتوزع بين التركيز على المكالمة والتعامل مع ظروف حركة السير المتغيرة. كما أن السائق يضطر لتوجيه نظره بعيدا عن الطريق لثوان إذا كان سيضغط على زر واحد على الأقل للرد على مكالمة بعد التأكد من هوية المتصل. أما إذا كان السائق سيضغط على أرقام لوحة الهاتف للاتصال برقم معين فإن ذلك سينقل تركيزه عن الطريق لفترة أطول، تزداد إذا كان المرء يريد أن يقرأ أو يرسل رسالة نصية. ومع كل ثانية يتشتت فيها الانتباه يرتفع أربع مرات معدل خطر ارتكاب حادث سير.

المشكلة أنه مع تقدم التقنيات والمنافسة في الأسواق، فإن شركات السيارات تقوم بتركيب نظم معقدة للملاحة والتسلية في سياراتها تشمل وسائل ربط أجهزة الهاتف الجوال و«آي بود» و«آي باد» بلوحة القيادة وتتيح حتى الدخول إلى الإنترنت، مما يعني تشتيتا أكبر لتركيز السائق، وبالتالي رفع نسبة خطر الحوادث. ويقول الخبراء إن هناك حاجة إلى تشديد القوانين، وهو ما يجد تجاوبا في عدد من الدول، لكن الأهم في تقديري هو ارتفاع درجة الوعي والمسؤولية عند الناس، حفاظا على أرواحهم وأرواح الغير، خاصة الشباب الذين ترتفع نسبة الوفيات بينهم بسبب هذا القاتل الجديد.