عالمان: العائلة ضد الفرد

TT

من مصاعب العالم الغربي الاقتصادية أن الصناعة والتجارة اللتين شكلتا الهيكل العظمي لرفاهيتهم أخذتا تفلتان من بين أيديهم إلى الدول الآسيوية. طبعا السبب هو انخفاض تكلفة العامل الآسيوي. بيد أن هذا بدوره يرتبط بالنمط الاجتماعي لحياة هذين العالمين، الشرق الذي يتمسك بفكرة العائلة، والغرب الذي يقوم على الفردية.

لي مثالان عمليان طريفان في الموضوع. عندما كان شعري الكثيف يغطي رأسي بما يضطرني لزيارة الحلاق، كنت أذهب برأسي هذا إلى الحلاق جمي في كنغستن. وهو ما فعلته يوما. وصلت إلى صالون الحلاقة في الواحدة وخمسين دقيقة. دفعت الباب الزجاجي فوجدته موصدا. كان الحلاق واقفا وراء زجاج الباب يفتل شاربه ويصفر. فأشرت إليه فأشار إلى البطاقة المعلقة على الباب: «مغلق ساعة 1 - 2». لم يكن يفعل أي شيء غير فتل شاربه والصفير بأغنية رائجة. كنت أنتظر منه أن يفتح الباب لي ويحلق شعري ما دام لم يكن يقوم بأي شيء. ولكنه لم يفعل. وقفت أمامه، وجها لوجه، لا يفصل بيني وبينه غير زجاج الباب. ولكنه لم يعبأ وبقي يفتل شاربه ويغني حتى دقت الساعة الثانية. فترك شاربه وتوقف عن الصفير والغناء وفتح الباب ورحب بي إلى صالونه ومقاصيصه.

سيقول القارئ هذا عالم النظام. وأقول هذا عالم الجمود ودنيا الفرد. تعلمت من ذلك أن أحسب الدقائق وأحترم الوقت والنظام فبهما حصل الغربيون على ثرواتهم ورفاهيتهم وحضارتهم القائمة على الفردية.

بعد بضع سنوات، ذهبنا لزيارة خالد عيسى طه في يوم أحد وحل موعد الغداء. قال هيا بنا ننزل إلى المطعم الباكستاني ونأكل. مشينا إليه فوجدنا الباب موصدا وعليه يافطة تقول: «مغلق يوم الأحد». سقط في أيدينا فلم يكن هناك أي مطعم آخر. وقفنا حائرين وبعد لحظات فقط من الحيرة، كان صاحب المطعم قد وقف بيننا كالعفريت الخارج من قارورة ألف ليلة وليلة. «لبيك لبيك أنا عبد بين يديك: اطلبوا وتمنوا ما تشاءون من الأكل». وقدم لنا قائمة الطعام. «افتح لنا الباب». قال لا أستطيع. لا يسمح لي القانون بالعمل يوم الأحد. ولكن اطلبوا ما تشاءون وسآتيكم به في بيوتكم! نظرنا في القائمة واخترنا ما نريد. وراح محمد خان يجري إلى بيته، يفيق زوجته من النوم ويجند أولاده لفرم البصل وغسل الطماطم ودق الثوم، وراح محمد وإخوانه وأعمامه وأخواله ينفخون ويطبخون ويرشون الكاري والتوابل.

نصف ساعة وكان محمد خان يقف على باب البيت مع أولاده وإخوانه يحملون أطباق اللحم بالكاري والبرياني والبلطي والرز بالزعفران والخبز النان وكل ما تشتهيه الأنفس. تسلم من مضيفنا حزمة باوندات دسها في جيبه انتظارا ليوم الاثنين ليودعها في حساب التوفير، مهرا لبناته.

عالم آخر. عالم العائلة الشرقي، العالم الذي أصبح يشكل أكبر خطر على المجتمع الغربي.