هل المنطقة ذاهبة إلى «الكومنولث» المذهبي الذي تريده إسرائيل؟!

TT

ما جرى في مصر خلال الأيام القليلة الماضية من تراشق كلامي صاخب بين المسلمين والأقباط مخيف ومرعب بالفعل؛ فلأول مرة تصل الاتهامات المتبادلة بين هذين المكونين الرئيسيين للشعب المصري إلى هذا المستوى من الانحدار وكل هذا بينما النيران المذهبية والطائفية تزداد اشتعالا وتقترب من أن تكون حرائق في العديد من الدول العربية التي كان هناك اعتقاد ذات يوم أنها بعيدة عن هذه الآفة ومحصنة ضد هذا الوباء الذي بات يجتاح منطقتنا بطريقة بدائية وغرائزية وعلى غرار ما كانت عليه الأمور في زمن الصراع العثماني - الصفوي عندما كان في ذروته.

ما كان متوقعا أن تهبط لغة التخاطب بين المسلمين والأقباط، أو على وجه الدقة، بين الذين يعتبرون ممثلين لهذين المكونين الرئيسيين في مصر إلى هذا المستوى، وأن يتعرض الأنبا شنودة، المعروف بوطنيته المصرية الصادقة والتزامه المثير للإعجاب بالقضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، لاتهامات جائرة، الغريب فيها أنها صدرت عن مفكرين مسلمين كبار، المفترض أنهم يعرفون أن هذه المنطقة تدفع دفعا نحو الاحتراب الطائفي والصدامات المذهبية.

كان هناك دائما وأبدا احتكاكات خفيفة بين المسلمين والأقباط في مصر، لكن كان أيضا هناك دائما وأبدا احتواء لهذه الاحتكاكات والخلافات، وكان العقلاء في الطرفين يلتقون فوق الأرضية المشتركة الواحدة التي هي أن مصر أهم من هؤلاء وأولئك و«أن الدين لله والوطن للجميع»، وأن التسامح التاريخي الذي عاشه هذا الجزء من أهل حوض النيل يجب أن يستمر على أساس الشراكة التي أنجبت حضارة عريقة مميزة بقيت تتطور وتترسخ خلال مئات السنين.

ثم إنه كان من الممكن أن يعتبر هذا التراشق الطائفي، غير المسبوق، عاديا، وكشجار الإخوة والأشقاء في الأسرة الواحدة لو أن هذه المنطقة كلها لا تعيش حالة الاستقطاب الراهنة التي باتت تنذر بحروب أهلية، إن هي اندلعت فإنها ستتواصل عشرات السنين وهي ستأكل الأخضر واليابس، والملاحظ هنا أن هذا كله يجري بينما يصر الإسرائيليون على ضرورة الاعتراف بدولتهم كدولة يهودية كشرط لاعترافهم بالدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة.

وهكذا.. فإنه لا يمكن قراءة هذا الذي يجري في مصر إلا في ضوء التسعير الطائفي والمذهبي في لبنان، والتصادم الذي اقترب من الحرب الأهلية بين السنة والشيعة في العراق، واتساع شقة الخلاف بين «الشوافع» و«الزيديين» في اليمن.. هذا الخلاف الذي يتخذ الآن طابع ما يسمى «الحراك» الجنوبي ويتخذ طابع المواجهة الساخنة مع «القاعدة»، وأيضا في ضوء كل هذا الذي تقوم به بعض الأوساط في إيران لإذكاء نيران الفتن الطائفية والمذهبية في معظم دول الخليج العربي، ومن بينها على وجه الخصوص الكويت والبحرين.

في لبنان، اتبع حزب الله، مسنودا بدعم خارجي خلال السنوات الأخيرة، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، سياسة تصعيدية مسلحة، أوصلت هذا البلد، الذي طالما عانى كثيرا من الحروب الأهلية على أُسس طائفية، إلى شفير الاقتتال الطائفي، والمؤكد أن هذا الاقتتال سيكون بمثابة تحصيل الحاصل إذا أصدرت المحكمة الدولية قرارها النهائي وتضمن هذا القرار اتهاما مباشرا للسيد حسن نصر الله وحزبه الذي دأب على مواصلة التهديد بأن إصدار هذه المحكمة لقرارها المرتقب سيكون الشرارة التي ستشعل نيران عدم الاستقرار والفتنة في بلد يتشكل مجتمعه من نحو عشرين مذهبا وطائفة.

وفي العراق، فإن أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، التي كان من المفترض أن تتشكل بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة مباشرة، تدل على أن هذا البلد يغرق في الاستقطاب المذهبي حتى ذقنه، وعلى أن الحرب الطائفية ستتجدد، ولكن على نحو أكثر عنفا وأكثر شمولية إن بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه الذي تسير فيه الآن؛ حيث غدت بلاد الرافدين كلها عبارة عن لوحة فسيفسائية بألوان مذهبية مفزعة ومرعبة ومقيتة.

ثم إنه بالإضافة إلى كل هذا الاستقطاب الطائفي، الذي بلغ ذروته في لبنان وفي العراق، فإن هناك ألغاما طائفية في دول عربية أخرى قابلة للانفجار في أية لحظة، والغريب أن القائمين على بعض هذه الأنظمة لا يشعرون أن أنظمتهم تنام فوق براميل محشوة بالقنابل الموقوتة، وأنهم لا يدركون أن تلاعبهم بنيران هذه الآفة المرعبة في دول «شقيقة» سوف يعجل بانفجار المشاكل المذهبية التي تعسعس كجمر مُتقد تحت طبقة رقيقة من الرماد في بلدانهم.

إنه لا يعقل أن يكون كل هذا السعار الطائفي في منطقتنا بعيدا عن إصرار بنيامين نتنياهو على ضرورة الاعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل كدولة دينية يهودية، ولعل ما يجب تذكره والتذكير به، ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة الخطيرة جدا، هو أن هناك خطة إسرائيلية، تعود لخمسينات القرن الماضي، لتمزيق هذه المنطقة العربية على أسس طائفية وإقحام أهلها في حروب مذهبية ليأخذ الصراع في الشرق الأوسط هذا الطابع المذهبي كبديل للصراع العربي - الإسرائيلي الذي أساسه القضية الفلسطينية.

وضع دهاقنة الحركة الصهيونية، في وقت مبكر يعود لفترة ما بعد إنشاء إسرائيل عام 1948، خطة لتحويل دولة إسرائيل من دولة غريبة في هذه المنطقة إلى دولة دينية تكون واسطة العقد في شرق أوسط جديد بعد تمزيقه على أساس مذهبي وإعادة صياغة معادلته «الجيوسياسية» ليصبح عبارة عن «كومنولث» طائفي تحتل فيه هذه الدولة الإسرائيلية اليهودية مكانة بريطانيا في «الكومنولث» البريطاني.

إن هذه ليست مزحة، لا خفيفة الظل ولا ثقيلته.. إنها حقيقة قد أكدتها التطورات التي تلاحقت خلال العقود الستة الماضية؛ حيث كما هو معروف أخذت بؤر التوتر في هذه المنطقة تأخذ طابع الاستقطابات المذهبية والطائفية شيئا فشيئا، وذلك إلى أن أصبح العراق فريسة لهذه الآفة المرعبة والخطيرة، وإلى أن أوصل حزب الله لبنان إلى هذه الحالة المأساوية، والآن إذ تنحدر لغة الحوار في مصر بين شركاء الوطن الواحد إلى هذا المستوى الممجوج، وإذ تتمادى إيران في سياسة الحقن المذهبي في دول الخليج العربي كلها، بينما تشهر إسرائيل سيف يهودية دولتها، فإن هذا يعني أن الكومنولث الطائفي الذي كان قد طرحه دهاقنة الحركة الصهيونية مبكرا لم يعد حلما وأنه اقترب فعلا من أن يكون حقيقة.