هل في الإمكان استئناف عصر النهضة؟

TT

يجنح الكثير من المثقفين العرب في السنوات الأخيرة إلى الحديث عن «النهضة العربية الثانية»، تمييزا لها عن النهضة الأولى التي يوصف بها فكر المفكرين العرب، مسلمين ومسيحيين، في الفترة الممتدة بين أربعينات القرن التاسع عشر ومنتصف ستينات القرن الماضي. والحديث على النحو المذكور يحمل، من جهة أولى، حنينا إلى عصر سمته - في وعينا الآن - العقلانية والتنوير كما يفيض، من جهة ثانية، بالأمل في مستقبل أفضل يجاوز حالتي الركود والتقهقر اللتين تغلبان على فكرنا اليوم. والحديث عن «استئناف» الجهد الفكري الذي بذله رجال «عصر النهضة» يستمد شرعيته عند مفكرينا العرب المعاصرين من كون المعضلات التي جابهت الفكر العربي منذ المائة والخمسين سنة الماضية هي التي لا تزال تجابهه اليوم أيضا (الاستبداد، التأخر التاريخي، العجز عن إحداث تجديد في الدين كفيل بجعله موائما للعصر، الإصلاح الشامل للمنظومة التعليمية، الإفادة مما عند الغرب من الأسباب الحقيقية للتقدم...). الحق أن شرعية الحديث موجودة، فالمشكلات المشار إلى البعض منها لا تزال قائمة، إن لم نقل إنها قد ازدادت تفاقما، فنحن لا نزال نواجه بقضايا نتوهم أن الحسم فيها قد تم منذ عقود كثيرة، في حين أن الواقع يكذب ذلك بالجملة. الحق كذلك أن الفكر العربي المعاصر، منذ ستينات القرن العشرين، قد شهد انتكاسات وعرف أشكالا كثيرة من التدهور تجعل ذلك الفكر أقرب إلى عهود الانحطاط منه إلى الأزمنة المعاصرة، وبالتالي فهو في ابتعاد شديد عن الروح التي وسمت عصر النهضة. غير أن ذلك لا يعفينا من طرح السؤال الواضح التالي: هل في إمكاننا اليوم أن نتابع مسيرة قطعها أجداد لنا منذ قرن ونيف؟ وبعبارة أخرى فنحن نتساءل: هل في وسعنا حقا «استئناف» عصر النهضة؟

لا غرو أن في قولنا نعم إنكارا للتاريخ ولصيرورته معا، فالتاريخ نهر متدفق لا يسع أحدا أن يستحم فيه مرتين. نحن في غنى عن التدليل على وجوه المغايرة بين حالنا بالأمس وحالنا اليوم، وفي غنى عن الإبانة عن أوجه الاختلاف بين العالم في مجموعه عشية القرن العشرين، والغرب منه خاصة، والحال في أيامنا هذه. إن «الاستئناف»، في معنى الاستعادة أمر متعذر إذن، بل مستحيل، غير أن الاستلهام ممكن بطبيعة الأمر، استلهام فكر النهضة والاستمداد من العطاء التنويري لرجالها. ربما وجب أن نقول بلغة الفقهاء إن الاستمداد واجب. إن فكر النهضة يجد مكانه في مخزوننا المعرفي جنبا إلى جنب مع ابن خلدون، والماوردي، وكذا مع المعتزلة والحنابلة ومع البيروني وأبي الحسن العامري... وباقي مفكري الإسلام. وحيث كان كذلك فنحن نطرح السؤال العملي المباشر: أي القضايا، مما عرض له الفكر العربي في عصر النهضة، تستوجب الاستدعاء أكثر من غيرها؟ وبعبارة أخرى: ما القضايا التي نرى فيها تشابها مع تلك التي جابهت مفكرينا في الفترة المذكورة أو بالأحرى، أي منها تكتسي صبغة الاستعجال؟

الرأي عندنا أن أكثر تلك القضايا خطورة وأهمية في يومنا هذا ثلاث. الأولى هي الدين في صلته بالعصر. والثانية هي قضية الصلة مع الغرب: على أي نحو يلزم لتلك الصلة أن تكون؟ والقضية الثالثة تتصل بالتعليم والنحو الذي يتعين أن يكون بموجبه إصلاح نظمنا التعليمية حتى نكون في تجاوب مع العصر فنضمن لأولادنا العيش الكريم مع الحفاظ على شخصيتنا الحضارية.

لم يقف الإصلاحيون المسلمون النهضويون عند حدود النقد السلبي ولم يكن حديثهم مجرد تأس على الانحراف عن المحجة البيضاء كما يرى خصومهم ذلك، بل إنهم بادروا إلى تقصي سبل الاجتهاد حتى يظل الإسلام (كما يفهمونه) دعوة إلى إعمال العقل وإلى الحضور الإيجابي في العالم. لذلك فهم، بالجملة، قد سلكوا مسلك الدعوة إلى توخي المصلحة التي كان شرع الله دفاعا عنها ومن ثم وجدوا ضالتهم في الشاطبي وآرائه في مقاصد الشريعة، ومن ثم كانت دعوة محمد عبده إلى وجوب إحياء تراث صاحب «الموافقات». وأحسب أن العبرة في الرجوع إلى الكيفيات التي ساءل بها رجال الإصلاح في عصر النهضة الإسلام وقدرته على مواكبة العصر جلية واضحة.

أما القضية الثانية (الصلة مع الغرب) فالعبرة فيها في الرجوع إلى أسئلة الإصلاحيين العرب - مسلمين وغير ذلك - ظاهرة للعيان. سلك مفكرونا النهضويون مسلكا ديدنه الأخذ بما عند الغرب من أسباب «التمدن» وأسس «الرقي» (حتى نستعيد مفردات عصر النهضة). كان الاختلاف بين مفكرينا آنذاك اختلافا في درجة الأخذ والاقتباس، أما المبدأ ذاته، فلم يكن أبدا موضع اختلاف: لا فرق في ذلك بين الطهطاوي والشدياق أو بين عبده أو الكواكبي والشميل وسلامة موسى وطه حسين ثم علال الفاسي ومالك بن نبي. شتان ما بين من ذكرنا من أمثلة وأشخاص وبين دعاوى الرفض والدعوة إلى هجر «الغير» والانكفاء على الذات والقول بالتقابل المطلق بين «فسطاط الكفر» من جهة و«فسطاط الإيمان» من جهة أخرى.

أما التعليم، قضية القضايا، في «عصر النهضة» فالناظر اليوم في أحاديث رجال الفترة المذكورة يجد مادة لتأمل خصب في المعضلات العسيرة التي تتصل بإصلاح المنظومة التعليمية العربية. ذلك ما نجده في دعاوى الإصلاحيين العرب (إصلاح الأزهر، إصلاح القرويين...) وفي أحاديث غيرهم في التعليم. إنها، والحق يقال، مادة لفكر عميق تلك التي نجد عند طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» وفي مؤلفات أخرى غير ذلك.

صفوة القول، إننا نكسب الكثير من استلهام الدرس النهضوي التنويري كما بثه في الصدور ونشره في الكتب والأندية مفكرون صدروا عن رؤى مختلفة مع اجتماعهم عند هاجس واحد: هاجس الإصلاح وعدم الرضا عن واقع كانوا يؤمنون بأنهم يستحقون حالا أفضل منه وبأنهم يملكون القدرة على الانتفاض والمطالبة بالتغيير. نعم، لا سبيل ممكنة، وجوديا وتاريخيا معا، إلى استئناف عصر النهضة. لكن لا مانع، بالمقابل، يحول دون استلهام روح ذلك العصر، اليوم وقد اغتنينا بتجارب مريرة كثيرة من الفشل والخيبة. فحيث كانت المعضلات العظمى لا تزال، في العمق، واحدة وحيث كان فكر النهضة يفيض بالصدق والأمل معا، فإن استدعاء فكر النهضة استدعاء يتوخى العظة والعبرة يكون مطلبا محمودا. فما أحوجنا الآن في النصوص التي نقدمها للناشئة في مدارسنا أن تشتمل على نماذج من الفكر التنويري لعصر النهضة. هل نضيف أيضا أن من نصوص المرحلة ما يصح اعتباره، بمقاييس البلاغة العربية، دررا تستحق الالتفات إليها؟ جماليات كثيرة يجدها القارئ لنصوص أحمد لطفي السيد ومحمد عبده والحجوي وطه حسين والفاسي وغيرهم كثير.

حيثما وجهنا الحديث عن النهضة فهو يعود بنا إلى القضية الأساس: قضية التعليم والتكوين. كذلك كان الشأن عند اليابانيين في الفترة التاريخية التي توازي «عصر النهضة» عندنا. وكذلك كان الشأن عند عموم دول أوروبا في القرن التاسع عشر أيضا. لا، بل إن القضية هي ما العالم منشغل به اليوم أشد ما يكون الانشغال. إنها دليل على وجود الأزمة وإرادة مجاوزتها معا. ذاك هو المغزى البعيد لنهضة تريد أن تكون دوما نهضة متجددة.