أدب السحر

TT

في ملحمته النثرية المذهلة «بدايات» يدخل أمين معلوف الكاتب في سباق مثير ومُضنٍ مع أمين معلوف الباحث. وإذ يجتمعان ويتوازيان ويتساويان، ينتهي السباق عند حاجز لا يبلغ بسهولة، بحثا أو سردا. فلتسمِّ هذا النوع من الأدب، السحر، أو المرتقى، أو السرد على إيقاعات ملازمة وغنائيات ونوتات موسيقية، مرة بيتهوفن، مرة موال أنا من أرض الوادي في آخر القرية، على درب موحش ومقفر ومجدب وحزين. ينقب أمين معلوف طوال لا أدري كم شهرا، ثم يمضي أربعين شهرا في كتابة هذه الملحمة، متنقلا ما بين قريته الصغيرة جدا في «المشرع» إلى هافانا، كوبا إلى نيوإنغلاند في الولايات المتحدة، متشبثا في الدفاتر والأوراق، وسجلات المتاحف والمقابر وخزائن العائلة، مكاتبا الأقارب الأكبر سنا، مصغيا إلى كل شاهد أو عارف أو ذي ذاكرة يمكن أن يصغي إليه.

البطل في «بدايات» ليس «ليون الأفريقي» ولا «عمر الخيام» ولا «بياتريس»، بل هو الراوي، الذي لا يشير إلى نفسه إلا لماما، وبفعل الضرورة وفن السرد، فهو يبحث عن سيرته في سير العائلة، أجداده وأعمامه، ويلقي برأسه على كتف جدته، التي ترك لها الجد المتوفى مبكرا ستة أيتام، أوصلتهم جميعا إلى الجامعة الأميركية، ومنهم والده، الذي سيكتب لها تلك القصيدة التي صارت تتقدم النشيد الوطني في عيد الأم:

* ربي سألتك باسمهنه - أن تفرش الدنيا لهنه

* بالورد إن سمحت يداكَ - وبالبنفسج بعدهنه

* حب الحياة بمنتين - وحبهن بغير منه

* نمشي على أجفانهن - ونهتدي بقلوبهنه

... إلخ.

يبدأ أمين معلوف من القرن التاسع عشر، يتوقف عند أغصان شجرة العائلة وجذوعها، لا يهمل ذكر حصاة في الدار ولا حقل مهجور، يدقق في أسماء وهويات البواخر التي حملت الجد والأعمام، يبحث في سجلات «ايليس ايلاند» نيويورك، التي نزل فيها جده وشقيقه قبل السفر إلى كوبا، يفتش زوايا هافانا إلى أن يعثر على ابن عم والده الذي أصبح في الثمانين، يذهب إلى الجسر الذي سقط عنه شقيق جده في سيارة فخمة يقودها بسرعة. ينقل عن صحف هافانا، ذلك النهار، 21 يونيو (حزيران) 1918، كيف وضعت الحادث ثم تفاصيل المأتم الذي حضره وجهاء العاصمة. تفاصيل تفاصيل تفاصيل، يحيكها أمين معلوف في بساط بنفسجي خليق بأن يعلق على الجدار. كل لون متنوع فيه هو لون بنفسجي، متواضع وعميق وأخاذ. ومن الصعب القبول بأن هذه اللوحة استغرقت أربعين شهرا فقط. لكن لا يمكن أن نجادل أمين. هذا رجل يقرأ كالانتهال، ولا يناقش. لا تضيعوا وقته العظيم.