مأساة الحركيين الجزائريين

TT

جراح الجزائر الموروثة من العهد الاستعماري البغيض كثيرة. بعضها اندمل أو يكاد، والبعض الآخر لا يزال مفتوحا ينزف دما وقيحا. احد هذه الجراح الحركيون الذين تعاملوا مع الاستعمار الفرنسي وقاتلوا في صفوف جيشه خلال الحرب التحريرية وفي النهاية خسروا كل شيء، ففي الجزائر هم «خونة» و«متعاونون» مع الاستعمار، وفي فرنسا هم مواطنون من الدرجة الثانية يعيشون في الاحياء البائسة، وفي «غيتوهات» تشبه «غيتوهات» الهنود الحمر في امريكا. يتساوى في هذا الوضع المأساوي الاجداد والاباء الذين عاشوا الحقبة الاستعمارية بكل تبعاتها، والاولاد الذين لا يعرفون الجزائر الا بالاسم، ولا عن تاريخها الا ما سمعوه أو قرأوه في الكتب.

وقد بدأت مأساة الحركيين الجزائريين في مارس/ آذار 1962 عندما اعلنت فرنسا التزامها التام بقرارات مفاوضات «ايفيان» التي انهت الحرب الطويلة بينها وبين جبهة التحرير الجزائرية، فانطلاقا من الشهر المذكور، شرع الجيش الفرنسي في تجريد الحركيين من اسلحتهم مستعملا القوة مرة والحيلة مرة أخرى، بل وصدرت اوامر سرية تقضي بعدم السماح لهم بمغادرة التراب الجزائري باتجاه فرنسا، ويعني ذلك انهم تركوا «عراة» أمام رجال جيش جبهة التحرير الجزائرية، الذين كانوا يطالبون علنا بالانتقام منهم نتيجة تعاونهم مع «العدو» خلال الحرب التحريرية. وخلال الاشهر اللاحقة مع بدأت الاعتداءات ضد الحركيين تأخذ شكلا عنيفا ودمويا.

ويؤكد بعض المؤرخين الفرنسيين ان عدد الضحايا من الحركيين خلال عمليات الانتقام التي تعرضوا لها تجاوز الـ 65000 ضحية، اما الذين نجوا منهم، وتمكنوا من الالتحاق بفرنسا فقد عاشوا ولا يزالون يعيشون ظروفاً قاسية كمواطنين «فرنسيين» من الدرجة الثانية ولا يزال ماضيهم يبسط على حياتهم وحياة أولادهم واحفادهم ظلالا سوداء.

والآن وعقب مرور اربعين عاما على محنتهم، رفع تسعة من الحركيين قضية ضد فرنسا بتهمة اقتراف «جريمة ضد الانسانية»، ويقول محامي هؤلاء روليه انهم على حق في رفع مثل هذه القضية، ذلك ان فرنسا هي السبب الاساسي في المجازر والمظالم التي تعرضوا لها، اذ انها تخلصت منهم بعد ان استعانت بهم خلال الحرب ملقية بهم الى رجال جبهة التحرير، لكي يفعلوا بهم وبعائلاتهم ما يشاءون.

ويضيف روليه قائلا: «ان المجازر الجماعية التي تعرض لها الحركيون وعائلاتهم والتي كانت بأمر من مسؤولين سياسيين كانوا يبتغون تحقيق اهداف سياسية من وراء ذلك، لا يمكن ان تكون الا جريمة ضد الانسانية».

وبالرغم من ان الرئيس جاك شيراك قرر ان يكون يوم 25 سبتمبر/ايلول يوم «اعادة الاعتبار» للحركيين، فإن هؤلاء ما زالوا مصرين على رفع قضيتهم المذكورة ضد فرنسا، ذلك انهم يرغبون في اعتراف كامل وحقيقي بحقوقهم، وفي كشف الحقائق عن تاريخهم، وعن الناس التي تعرضوا لها خلال الاربعين سنة الماضية. وفي النهاية هم يريدون ان يكف المآسي عن تسميتهم بـ«الحركيين» أو بـ«ابناء الحركيين» وان يتم الاعتراف بهم كـ«فرنسيين» ذلك انهم قدموا «اعمالا جليلة» لفرنسا ذات يوم.. وفي افتتاحيته بجريدة «ليبراسيون» الفرنسية (30 أغسطس/آب 2001) كتب جاك امالريك يقول: «ان دين فرنسا تجاه الحركيين والذي لم تدفعه اية حكومة فرنسية الى حد هذه الساعة كبير، وكبير جدا. واثقل دين يجب ان يوفى به هو ان يتم الاعتراف بالمظالم التي كان الحركيون ضحيتها. واما الدين الثاني فهو ان نكف نهائيا عن وصف هؤلاء بـ«الحركيين» وان نعترف بهم كمواطنين فرنسيين».

اما الجزائر فلا رغبة لها في فتح ملف الحركيين، وعندما سئل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عن رأيه في هذا الموضوع وذلك خلال الزيارة التي اداها الى فرنسا في صيف 2000، اكتفى بالقول: «اننا نتعامل مع الحركيين مثلما تتعامل فرنسا مع المتعاونين مع الاحتلال النازي اثناء الحرب العالمية الثانية...»، ويبدو انه من الافضل للجزائر ان تعير هذا الموضوع المتصل بماضيها اكثر اهتماما. وان تعيد الاعتبار على الاقل لأولئك الذين لا ذنب لهم سوى انهم كانوا أبناء أو احفاد من «خانوها» ذات يوم عندما كانت تقاتل بضراوة بهدف استعادة كرامتها والحصول على استقلالها.