أيام في سوق عكاظ

TT

حينما كنا طلابا في المرحلة الثانوية ندرس الأدب الجاهلي، كانت تستوقفنا حكايات سوق عكاظ، والأحداث التي تدور فيه، وكيف كانت تُضرَب للنابغة الذبياني قبة حمراء من أدم، تمييزا له وتقديرا لمكانته، وكيف كان زهير بن أبي سلمى، والخنساء، وقس بن ساعدة الأيادي من نجوم السوق ومشاهيره، ولم يكن في ذهن أحد منا أن هذا السوق سوف يصبح ذات يوم حقيقة في حياتنا المعاصرة، نستلهم أجواءه، ونستحضر سياقاته. ذلك ما تداعى إلى الذاكرة، وأنا أقضي أياما في سوق عكاظ، الذي أعاده إلى الوجود الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، ليغدو مهرجانا سنويا، يستقطب الأدباء والفنانين والحرفيين السعوديين والعرب، في تظاهرة ثقافية تضيف الكثير إلى رصيد السعودية من المهرجانات والمؤتمرات واللقاءات الثقافية.

ومنذ انطلاق هذا السوق قبل ثلاث سنوات، والسؤال الذي يتكرر سنويا: كيف يمكن التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في هذا السوق، فعكاظ التاريخي كان علامة فارقة في ذلك الزمن البعيد، يشير إلى أن العصر الجاهلي - كما لمح زميلنا الأديب حمد القاضي في لقاء تلفزيوني جمعني وإياه خلال المهرجان - لا يمكن اختزاله في الغزوات والحروب والثارات، كما استقر في أذهان الكثيرين، فعكاظ تاريخيا كان سوقا يحمل دلالات حضارية، تجتمع فيه قبائل العرب لإنشاد الشعر، وإلقاء الخطب، واجتماع الحكماء، وكان لسوق عكاظ - آنذاك - أغراضه وغاياته ضمن سياقات عصره، وبالتالي ليس بالضرورة أن يرتدي سوق عكاظ الحديث نفس الجلباب التاريخي، حيث يفترض أن يتناغم مع العصر ومستجداته، وبطبيعة الحال فإن منظمي السوق على دراية ووعي بهذه الجدلية التي يتبادلها ضيوف السوق كل عام، فهم يحاولون عاما بعد آخر ترسيخ المزيد من قنوات التعبير العصرية كالمسرح والفن التشكيلي و«الأوبريت» والندوات الفكرية وغيرها، ويسعون جاهدين إلى تمييز هذه التظاهرة عن غيرها من التظاهرات لتكون لها استقلاليتها، ومنهجها، وخصوصياتها.

ويُحمَد لسوق عكاظ الحديث أنه استطاع هذا العام أن يحشد ويجمع أكثر من مائة أديب ومثقف وباحث سعودي وعربي على مدى أيام في مكان واحد، يتمحورون باهتماماتهم حول السوق، وحول الشأن الثقافي العربي، يتبادلون الآراء والمؤلفات والأسئلة في مناخات محفزة على التواصل، فشكرا لكل من أسهم في إضاءة تلك الليالي التي تسامر فيها التاريخ والإبداع والفن في نفس المكان الذي ضرب فيه النابغة، وزهير، والخنساء أطناب خيامهم ذات زمن بعيد.

[email protected]