أم الجمال

TT

من غرفة الفندق في جدة، يبدو مبنى قيد الإنشاء، وخلفه عمارة أعلى لم تنجز بعد، وخلفها بناء أكثر ارتفاعا ينتظر موعد التدشين. وما أنا إلا زائر عابر، فما شأني إن بدأ جزء من المدينة يعتم في النهار؟ وما أدراني أن المقيمين لا يفضلون الظل ولو مديدا ودائما على حر لا يرده شيء؟ ثم أكثر من هذا: أليست فينا نحن، المحافظين غير الجدد، نزعة ساذجة تريدنا أن تبقى المدن كما عرفناها؟ ما هو الفرق بين جدة كما عرفتها وكما هي الآن؟ الفرق هو ما شاء الله. عشر مدن تحمل اسما قديما واحدا.

خامرني هذا الشعور عندما كنت في دبي قبل سنوات: إن الأبراج تطبق على المدينة، والسماء تحجب، والفلاة تغيب. وكنت أسائل نفسي، ما الذي أريده، إذن؟ أن تبقى الصحراء مكان العمار، والرمال بدل الحياة والحركة والحيوية وتوفير العمل والكفاية للناس؟ الجواب واضح طبعا. لكنني كنت أتمنى أيضا المحافظة على فسحة قليلة هنا وهناك.

إذا كانت هذه أمنية عابر مثلي، فما هي أمنية صاحب الأرض الذي سوف تدر له الملايين؟ هل هو أيضا على مثل هذه المشاعر الرومانسية، التي تحرص على استبدال الملايين بالرمل، لمجرد نزوة جمالية لا علاقة لها بحركة الاقتصاد وتقدم الأمم؟ ثم أليس مشهد بعض الهندسيات الجديدة أجمل بكثير من مساحات الرمل القديم؟

يخوض وزير الثقافة في لبنان، الأستاذ سليم وردة، حربا ضد أصحاب المباني القديمة للحفاظ على طابع بيروت القديم. ويعترض أصحاب المباني، فلماذا يبقون فقراء من أجل مشهد أثري أو جمالي، فيما المبنى المجاور صار بعدة ملايين؟ نحن، الذين عشنا في أوروبا سنوات طويلة، نعرف ماذا يعني أن يكون للمدن تاريخ وتطريزات معمارية وشرفات لها حدائد كالأساور. لقد منع أصحابها من مسها بأمر من الدولة. وفي بريطانيا أبقيت منازل المشاهير كما هي، ووضعت عليها لوحات كتلك التي توضع على الضرائح: هنا عاش فلان، بدل هنا دفن فلان. لكن أيضا، أليس أصحاب المباني القديمة على حق؟ لماذا لن يطبق قانون الجماليات إلا على حالتهم المادية؟ لماذا لم يبق شبر في بيروت دون بناء، وكل مبنى ثروة؟ وهل لبنان بلد تطبق فيه قوانين الجمال، وقد أصبح معسكرا من الإسمنت العشوائي والقبيح، إلا حيث لم يصل الجشع بعد؟

أتمنى ألا يقرأ وزير الثقافة هذه السطور. فكلما كتبت في الموضوع يدعوني إلى موازنة في حملته النبيلة. وأنا محافظ قديم لا من عتاة «المحافظين الجدد». لكنني أطرح في جدة وفي دبي وفي بيروت السؤال نفسه: هل يجوز أن يكون ثمن أرض لا ثمن له، وثمن أخرى ثروة كبرى؟ وهل تستطيع الدول العدل في ذلك، وكم ستكلفها التعويضات؟