«الوحدة الوطنية» السعودية: «عوامل نجاح الاستمرار»

TT

الوحدة التي بناها الملك عبد العزيز آل سعود لم تكن «مرحلة تاريخية» طويت إثر وفاته، بل هي وحدة استمرت وتوطدت بعد وفاته: بشهادة الزمن الممتد عبر عقود أربعة، وبشهادة الواقع الماثل، وبشهادة العين التي تبصر هذا الواقع الضخم المتماسك الأجزاء، الموار بالحركة والتوثب.

إن الأجيال الجديدة التي تنعم بهذه الوحدة دون عناء وتتنفسها بأنفاسها التلقائية، ينبغي أن تدرك أن الوحدة لم تكن سهلة التناول والتحقيق بادئ ذي بدء. فالتاريخ الاجتماعي والسياسي لهذه البلاد ناطق بأن صعوبات شديدة، وظروفا عصيبة واجهت المؤسس الموحد (ومن معه من الرجال المخلصين).. ومن هذه الصعوبات والتحديات:

أ- سعة الرقعة الجغرافية.. فالمملكة العربية السعودية تتربع على مساحة تبلغ 2,250,000 كيلومتر مربع، أي ما يمثل 80 في المائة من مساحة شبه الجزيرة العربية، وهي رقعة تكاد تكون قارة كاملة!.. وعلماء الجيوسياسة يعلمون أنه كلما اتسعت الرقعة الجغرافية، زادت صعوبات الوحدة، ولا سيما بحسبان العقبات التالية (في حالة السعودية):

ب- عقبة ضآلة أو انعدام وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة.. وبالمقارنة: يتضح المفهوم.. لقد برزت في العصر الحديث ثلاثة أسماء لثلاثة زعماء تاريخيين قادوا بلادهم إلى «الوحدة» القومية أو الوطنية، وهم: جورج واشنطن في الولايات المتحدة، وبسمارك في ألمانيا، وكافور في إيطاليا.. لا شك في عبقرية وتصميم هؤلاء الزعماء على توحيد بلادهم، بيد أن الظروف «الحضرية» أعانتهم على ذلك، فقد كان بين أيديهم من وسائل المواصلات ما مكنهم من تحقيق حلمهم في الوحدة، لكن الملك عبد العزيز (وهو الاسم الوحدوي الرابع في العصر الحديث من حيث الترتيب الزمني)، لم يكن يملك من الوسائل الحديثة ما يملكه أولئك الزعماء. وعلى الرغم من ذلك فقد حقق وحدة كبرى قوية وفتية، وهي وحدة يمكن وضعها - بالمقارنة - في المعادلة التالية: مساحة جغرافية هائلة + فقدان وسائل المواصلات والاتصالات الحديثة + وحدة كبرى راسخة = عبقرية أعظم، وإرادة سياسية أبرع وأنجح.

ج- عقبة أو صعوبة قلة ذات اليد، وهي عقبة تدخل - كذلك - في سياق انخفاض معدلات التحضر العام يومئذ.

د- عقبة تجذر الانقسامات المناطقية، والصراعات القبلية.. حيث مضى دهر طويل على هذا الواقع التفتيتي غوره تغويرا في النفوس والأفئدة والمفاهيم والتقاليد والعادات والتراث الأدبي: شعرا ونثرا.. وما كان الناس بمنفكين عن ذلك كله: لولا ثقتهم بقيادة الملك عبد العزيز، وثقتهم بأنه يسعى لمصلحتهم وتقدمهم، ولولا حزمه هو في تحقيق الوحدة: كل ذلك في ظل توفيق الله عز وجل: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ».

ولنعد إلى مبتدأ المقال وجوهره، وهو «عوامل نجاح استمرار الوحدة» واطرادها في الزمن بعد وفاة الملك عبد العزيز.. ولئن قلنا في مقال الأسبوع الماضي: إن مساحة المقال لا تتسع لجميع عوامل «قيام الوحدة»، فإن هذا المقال لا يتسع - كذلك - لجميع عوامل «استمرار الوحدة»، ولذا نورد من هذه العوامل ما نحسبه أظهرها وأهمها:

1- عامل وفاء أبناء الملك عبد العزيز وخلفائه الملوك لنهج المؤسس في الحرص على الوحدة الوطنية وتغذيتها بما يديمها ويعززها ويمدها - بعون الله - في الزمن الآتي.. ولقد نهج المؤسس نهجا جد واضح في شأن الوحدة، كما هو واضح في القضايا كافة.. يقول الملك عبد العزيز في هذا الشأن: «عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما، ولا أتوانى في دحر من يحاول النيل منهما ولو بشعرة.. الأمر الأول: كلمة التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله - اللهم صل وسلم وبارك عليه. إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكل آل سعود فداء لهذه الكلمة، ولا أضن به.. الأمر الثاني: هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وكثرهم بعد القلة، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه».. وفي هذا النهج يمثل الثابتان الأساسيان الكبيران في الكيان السعودي: ثابت عقيدة التوحيد.. وثابت وحدة الجماعة أو الأمة أو الوطن.. ولقد وفى أبناؤه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد - رحمهم الله - والملك عبد الله - حفظه الله.. وفوا لهذا النهج الذي اختاره والدهم، ومن ثم قرنوا بين الثبات على كلمة التوحيد: «فاعلم أنه لا إله إلا الله»، والثبات على وحدة الأمة: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا».

2- العامل الثاني من عوامل «استمرار الوحدة» هو عامل التطوير والترقية والتنمية العامة.. فلقد عززت عهود ما بعد الملك عبد العزيز: الوحدة الوطنية بالمواصلات والاتصالات والتعليم والزراعة والتصنيع والنظم الإدارية المتتابعة وسائر الخدمات والآليات التي من شأنها توثيق عرى الوحدة الوطنية.. وهذا عامل يتبوأ مكانة عالية جدا في الأهمية والجدوى.. ذلك أنه يضم إلى جانب الإيمان المبدئي بالوحدة: شعور الناس ووعيهم بأن مصالحهم الدنيوية تتحقق من خلال الوحدة الوطنية.. وهذا يدخل - كذلك - في سياق وفاء أبناء الملك عبد العزيز الملوك لـ«الوحدة الوطنية» التي أرسى أصولها والدهم المصلح الرائد.. ويتأتى وفاؤهم للوحدة الوطنية من خلال تعزيزها المستمر بالتطوير والترقية والتحديث والتنمية الشاملة المتمثلة في الخطط الخمسية المتعاقبة.

3- العامل الثالث من عوامل «استمرار الوحدة الوطنية» هو: مناخ الأمن الوطيد والاستقرار العام في البلاد.. فمن خلال استقراء التجارب البشرية - في التاريخ الواقع - تتوكد حقيقة أنه يتعذر، بل يستحيل، بقاء وحدة ما واستمرارها في ظل الاضطراب وعدم الأمن والاستقرار.

إن الأمن صيانة يومية لحياة الأفراد والمؤسسات ولانسيابية الأعمال والأسواق والخدمة المدنية ومعايش الناس - بوجه عام. نعم.. إن الأمن هو - في الوقت نفسه - السياج الصلب الذي يوفر التماسك والصلابة للوحدة الوطنية. ومن هنا ندرك أن الذين يحاولون النيل من أمن السعودية - في الداخل أو الخارج - بهذا الأسلوب أو ذاك، إنما يحاولون ضرب «الوحدة الوطنية».

وخاتمة جميلة، وهي أن «الوحدة الوطنية السعودية» لم تكن «عرسا بهيجا» للسعوديين فحسب، بل كانت مصدر فرحة غامرة للعرب والمسلمين كذلك.. لقد احتفى قادة الفكر العربي الإسلامي بهذه الوحدة واستبشروا بها أيما استبشار.. لقد استبشر بها القومي العروبي المعروف ساطع الحصري في كتابه «العروبة أولا».. واحتفى بها العالم الجزائري الكبير محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية علماء الجزائر وخليفة الشيخ عبد الحميد بن باديس.. قال الإبراهيمي في جريدة «البصائر»: «عبد العزيز بن سعود - أيده الله وحفظه - هو الملك الصالح المصلح الذي أسس في جزيرة العرب، وعلى أطرافها، أعظم دولة عربية منذ عهد الخلفاء الراشدين، ووطد أركان هذه الدولة الفتية على أسس متينة من العدل الإسلامي، والحكم القرآني، والأريحية العربية.. فوحد البلاد بعد شتات، ونظم الحكم بعد فوضى، وأمن السابلة بعد خوف وبغي وعدوان، ومصر الأمصار، وأقر الأعراب حول القرى والمزارع، وجعل العربي من الخليج إلى البحر الأحمر، ومن بداية الشام إلى ربوع حضرموت، يشعر بالوحدة العربية، ويحس بانتسابه إلى دولة قوية تحرسه وترعاه وتسهر على مصالحه».

يا دولة التوحيد هل لك مطفئ

ربي يضيئك والعتيق يليك