مفاوضات السلام بين الغاية والوسيلة

TT

أتطرق إلى الموضوع بينما المبعوث الأميركي الخاص جورج ميتشل يحاول إنقاذ محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، التي بدأت الشهر الماضي (سبتمبر) في واشنطن، من الانهيار بسبب انتهاء فترة تجميد بناء المستوطنات لمدة عام.

الزعيم الفلسطيني محمود عباس رسم حول موقفه مربعا مغلقا يصعب الخروج منه بتهديده بقطع المفاوضات في حال استئناف الإسرائيليين بناء المستوطنات.

الرئيس عباس ينتظر لقاء وزراء خارجية دول منظومة الجامعة العربية في القاهرة السادس من الشهر الجاري، في محاولة لإيجاد غطاء (غير فلسطيني!) لأي تحرك يخرجه من المربع الضيق الذي رسمه بتصريحاته.

الزعيم الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من ناحيته، حبيس مأزق من صنعه، ولكن خياراته أكثر اتساعا وتعددا من خيارات شريك المفاوضات الفلسطيني.

الطرفان أضاعا أكثر من عشرة أشهر قبل بدء المفاوضات التي تتعرض للانهيار، الذي كان يمكن لأي سياسي متوسط المهارة أن يتجنبه باختيار التوقيت الصحيح.

ولأن كليهما سياسي محنك، فإن سلوكيهما يضع علامات استفهام حول جدية الطرفين في التوصل إلى سلام حقيقي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحجج بأن شركاءه في الائتلاف الحاكم، خاصة كتلة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان لن تقبل بتجديد فترة تجميد بناء المستوطنات. فالكتلة سجينة أيدلوجية متطرفة متخلفة في تفسيرها التوراتي الضيق والتي تعتبر بناء المستوطنات غاية دينية، وبالتالي فتجميدها أو إزالتها يدخل دائرة المحرمات لديهم.

وذلك بعكس رئيس الوزراء السابق أرييل شارون الذي رأى في المستوطنات وسيلة - من أجل الحفاظ على موقف أو التوصل - لتحقيق غاية. فإذا تحققت الغاية وتم تأمين الموقف، تلاشت حاجته لمستوطنات سارع بتفكيكها (كمستوطنات سيناء وغزة). فالمستوطنات في استراتيجية شارون هي حزام أمني ضد أخطار اعتبرها مهلكة للدولة اليهودية؛ وورقة للمقايضة بتسوية على المدى الطويل، ولذا كان مستعدا للتضحية بمستوطنات عديدة مقابل جائزة تفوقها قيمة، وهي السلام الدائم، مع اعتراف الفلسطينيين بالهوية اليهودية لإسرائيل.

نتنياهو يصرح علنا بالتزامه بحل الدولتين، ويعطي مثالا بقراره لتجميد بناء المستوطنات لمدة عام.

وإما أن نتنياهو منافق، أو صادق في نيته لتأمين مصلحة بلده على المدى الطويل.

فإذا كانت وعوده أمام ميتشل ووزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون وفي المؤتمرات الصحافية، تتناقض مع أيدلوجيته الشخصية، بالتفسير المتطرف لـ«أرض الميعاد» التي تشمل ما يستولى عليه بالسلاح؛ فهو منافق يتعين على واشنطن فضحه.

وإذا كانت التصريحات تمثل بالفعل إيمانه السياسي فإن مصلحة بلاده «بسلام على المدى الطويل»، تعني إيقاف بناء مستوطنات على أراض يرى معظم المجتمع الدولي (وأقلية لها وزن معتبر بين الناخبين الإسرائيليين) أنها محتلة؛ أي غير خاضعة للدولة اليهودية أو لشركات البناء أو للمستوطنين (باستثناء أراض باعها أصحابها بمحض إرادتهم، باعتبار أن خيار الفرد وحريته في التصرف في ممتلكاته هي أمر لا يجوز للساسة التدخل فيه)، ناهيك عن تفكيك ما هو غير قانوني منها.

في هذه الحالة - والنصيحة لواشنطن بالضغط عليه، شريطة ألا يكون ذلك علنا - يجب أن يتخذ نتنياهو قرارا شجاعا، من أجل مصلحة بلاده أولا، بالدخول في ائتلاف حكومي جديد مع كتلة كاديما (والكلمة نفسها تعني التحرك للأمام) وهي فرصة تاريخية لن تدعها كاديما تفلت، فقد تكون في أهمية اتفاقيات كامب دافيد عام 1978 التي مهدت لمعاهدة السلام التاريخية بين مصر وإسرائيل 1979، ولا تقل أهمية عن اتفاقية أوسلو بين الراحلين، ياسر عرفات وإسحق رابين عام 1993. وبالتالي ليس أمام نتنياهو حجة كاحتمال فقدان كرسي رئاسة الوزارة إذا انسحب ليبرمان والمجموعات اليمينية المتطرفة من ائتلافه الحكومي.

ولأن معاهدات السلام توقع بين طرفين، فإن على الرئيس عباس أيضا أن يتخذ خطوات إيجابية من أجل مصلحة فلسطين. وقد قدم الزميل طارق الحميد النصيحة، أول من أمس الخميس، في مقال بعنوان «معلم يا معلم!» - بتذكيره الرئيس الفلسطيني الذي «يهدد بإيقاف المفاوضات دون أن يقول لنا ما هو البديل» بملاحظة بديهية، بأن وزير الخارجية السوري نفسه كان في واشنطن يبحث عن وسيلة لبدء مفاوضات سورية إسرائيلية، رغم استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات في الجولان السورية المحتلة التي ضمتها إسرائيل إليها بتصويت في الكنيست في الثمانينات.

وبالطبع لا ننتقد الوزير السوري، لأنه يسعى إلى تحقيق مصالح بلاده أولا، وهو واجب أي دبلوماسي؛ فلماذا لا يبحث الرئيس عباس عن مصلحة بلاده قبل مواقف العزة والكرامة الأيديولوجية؛ خاصة في غياب البديل؟

والسؤال المحير - والمناقض للمنطق بالتسلسل التاريخي للأحداث -، أن يتخلى رئيس الدولة الفلسطينية (أو السلطة الوطنية)، كممثل للأمة الفلسطينية عن قراره التاريخي ويسلمه لوزراء خارجية منظومة الجامعة العربية؟

فلن تجد وزير خارجية في العالم، شرقيا أو غربيا يضع مصلحة شعب آخر قبل مصالح شعبه الذي ينتمي إليه؛، حتى ولو كانت حكومة هذا الوزير تسير المظاهرات، المدعومة اقتصاديا، ومواصلاتيا ونقابيا، لتأييد الشعب الفلسطيني.

ألم يناضل القادة الفلسطينيون، من جيل الرئيس عباس نفسه، سياسيا، وإعلاميا، ودبلوماسيا، وبالسلاح، من أجل صدور قرار قمة عربية بالإجماع بأن منظمة التحرير (السلطة الوطنية في رام الله اليوم) هي الممثل الشرعي الوحيد (الوحيد) للشعب الفلسطيني؟

وأكرر ما أكتبه في الصحافة الإنجليزية، بأن إسرائيل (أو أي بلد آخر) لن توقع معاهدة أو اتفاقيات سياسية الطابع مع الجامعة العربية (فباستثناء سورية، لا يوجد نزاع حدود بين إسرائيل وأي عضو آخر في الجامعة العربية).

إسرائيل كيان اسمه «الدولة» في القانون الدولي، والتعريف لا ينسحب على الجامعة العربية. إسرائيل وقعت اتفاقيات مع كيانات مماثلة قانونيا (أي دول)، كمصر والأردن، والسلطة الوطنية الفلسطينية (تمثل الفلسطينيين شرعيا أمام القانون الدولي).

فحصول عباس على «غطاء» من وزراء خارجية الجامعية العربية ليس له أهمية قانونية تؤثر إيجابا أو سلبا على قرار إسرائيل بقدر ما هي استعراض لاستهلاك الفضائيات العنترية وصحف تزايد من عواصم أوروبا على فلسطينيين صامدين في الضفة الغربية ومخيمات اللاجئين. ونصيحتنا، من موقف محايد، لمصلحة الفلسطينيين أولا: أن يكون القرار فلسطينيا مستقلا؛ قرار سيكون الرئيس عباس مسؤولا عنه أمام التاريخ، في مصلحة شعبه أولا. فالوزير السوري يمثل الحكومة السورية، والليبي يمثل بلاده وليس فلسطين؛ ومن الغفلة أن يقدم وزير اليمن أو موريتانيا، مثلا، مصلحة فلسطين على مصلحة بلاده.

فإسرائيل يا فخامة الرئيس لن توقع أبدا أي معاهدات سياسية مع ظاهرة اسمها الجامعة العربية، وإنما مع كيان اسمه فلسطين، أنت رئيسها المسؤول عن حماية مصالح شعبها أمام التاريخ.

انتهى