أحمد ماهر.. الاسم والمسمى

TT

فقدت مصر، برحيل وزير خارجيتها السابق، أحمد ماهر السيد، أحد ألمع وأبرز دبلوماسييها، كفاءة ووطنية وإخلاصا وعمق تجربة، امتدت على ما يقرب من نصف قرن.

فقد تدرج منذ سن مبكرة عقب تخرجه من الجامعة نهاية الخمسينات، في مراقي ومراتب سلك الدبلوماسية المصرية إلى أن قادها من 2001 إلى عام 2004، آتيا إليها من مهام سفارة ناجحة في واشنطن، ممثلا لبلاده لدى القوة العظمى لمدة ثماني سنوات، وهي فترة قياسية في الأعراف الدبلوماسية، عايش خلالها أحداثا كبرى وشهد متغيرات جذرية وتحولات في نظام العلاقات الدولية.

وإذ أحاول في هذه العجالة، وأنا تحت هول الصدمة المباغتة، استحضار بعض اللحظات من عِشرة وصداقة امتدت سنين لم تشُبها شائبة قط، لا أقصد رثاء العزيز أحمد، فما أكثر محبيه وأصدقاءه الذين سيلتاعون عليه مثلي، مع اليقين أن كلماتنا مهما علت لن ترده إلينا، إنما أرمي، من خلال هذه الكلمات الطافحة بالأسى، إلى تنوير وتبصير أجيال الدبلوماسيين العرب الشباب بتلك القدوة وذلك النبراس المتوهج الذي انطفأ على حين غرة. أحاول استرجاع ملامح في صورة شهادة صادقة موضوعية عنه، كما عرفته واحتككت به ومن خلال متابعتي لعمله الدؤوب، وقد تشابه مسارنا الوظيفي، فمن مبنى سفارة بلدينا في العاصمة الأميركية، عدنا إلى القاهرة والرباط، ليس في نفس التاريخ، ليتولى كلانا حقيبة الخارجية في بلاده، وليستمر التواصل ويتجدد اللقاء بيننا على أصعدة مختلفة.

أسأل نفسي: كيف ومتى عرفت أحمد ماهر؟ والجواب جاهز محفور في ذاكرتي. لا يمكن أن أنسى لحظة ذلك الإفطار الرمضاني على مائدته وحفاوة وترحيب رفيقة عمره العزيزة الغالية «هدى» المكلومة مثلنا.

كانت أول دعوة كريمة أتلقاها في واشنطن منذ أن حللت بها سفيرا للمملكة المغربية يوم 14 فبراير (شباط) من عام 1993، بعد ذلك التاريخ بيومين التقيت الراحل في الكونغرس للاستماع إلى الخطاب السنوي عن «حالة الأمة»، الذي يلقيه رؤساء الولايات المتحدة، ويدعى إليه الدبلوماسيون المعتمدون.

في تلك الأجواء تعرفت عليه. نسجنا بسرعة خيوط صداقة امتدت ونمت وترعرعت مع الأيام فأينعت مودة صافية. أتيح لي أثناء معاشرته أن أتعلم الكثير منه، فهو صاحب التجربة الغنية في الحقل الدبلوماسي بعدد من العواصم الوازنة، أذكر منها على سبيل المثال موسكو، وبروكسيل، ولشبونة.

ما شدني إليه، عدا شمائله الإنسانية، حيويته المتوقدة. كان ضمن قلة من السفراء العرب الحريصين على الوجود في أروقة السلطة، سواء لدى الجمهوريين أو الديمقراطيين، يترددون بدافع المصلحة القومية والوطنية على مراكز الضغط والتأثير في صنع القرار في الولايات المتحدة.

أتخيل أنه أدرك بفطنته وذكائه استعدادا مماثلا من جانبي فاتخذني رفيقا وشريكا. وضعنا اليد في اليد، لا نتخلف عن الحضور في كل تظاهرة نافعة لبلدينا في الكونغرس الأميركي وفي المنتديات والمنظمات الأميركية. نقصدها أحيانا في ساعات الصباح الأولى، لا نبالي إن صادفت عطلة أو يوم راحة. وأستطيع أن أقول الآن إن ما سمعناه ورأيناه واطلعنا عليه في تلك اللقاءات المتعددة أفادنا كثيرا في عملنا وعمق معرفتنا بالمجتمع السياسي الأميركي وبآليات اشتغال السلطات في العاصمة واشنطن وفي الولايات، مثلما أتاح لنا إبراز قضايانا الوطنية والقومية والتعريف بها.

نجح أحمد ماهر السيد، بدأبه ووطنيته وحنكته وتواضعه ودماثة خلقه وقدرته على الإصغاء، في أن يحتل عن جدارةٍ صدارة الأحداث خلال عمله بالولايات المتحدة. أشهد أنه خدم قضايا بلده وأمته بتفانٍ قلّ نظيره، استحق عليه الثناء والتكريم من وطنه في حياته مثلما حز في النفوس فراقه ورحيله.

كنا جماعة من السفراء العرب، يتقدمنا عميدنا صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز، سفير خادم الحرمين الشريفين حينئذ. تضم الجماعة: الشيخ الدكتور محمد صباح السالم الصباح، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية الكويت الحالي، فايز الطراونة، رئيس مجلس الوزراء وزير خارجية الأردن الأسبق ونائب رئيس مجلس الأعيان حاليا، ثم وليد المعلم، وزير خارجية سورية. اعتدنا العمل بتنسيق تام وتشاور بيننا ومع زملائنا السفراء العرب.

اجتمعت في الراحل أبرز صفات الدبلوماسي الناجح، فعدا نظرته إلى المهنة كواجهة نضالية من أجل المصلحة القومية والوطنية، فإن الله وهب «ماهر» القدرة والفصاحة والمعرفة والبيان بإتقان ثلاث لغات، ليصبح متحدثا بارعا ومقنعا في السياقات السياسية والمالية والاقتصادية والمحافل الفكرية وحتى الدينية. استطاع بتلك المواهب والخصال المتأصلة فيه أن يصل إلى أذهان وقلوب شرائح عريضة من الرأي العام الأميركي، بمن فيه المنتسبون إلى الجماعات والطوائف الدينية المسيحية واليهودية.

أذكر في هذا الصدد وقد فاجأنا ذات مرة أنه الخطيب الرئيس في حفل ديني نظمه أتباع طائفة «المرمون» في معبد خاص بهم، يقيمونه بالعاصمة الأميركية كل سنة احتفاء بذكرى ميلاد المسيح، حيث يضاء مليون مصباح ابتهاجا باللحظة وتعظيما لها.

كنا مع زوجتينا المسلمين الوحيدين، بهرنا أحمد ماهر وهو يتحدث مثل راهب على دراية تامة بقاموس ألفاظ أتباع الكنيسة «المرمونية». يعبر بلغة إنجليزية راقية لدرجة أن الحاضرين حسبوه واحدا منهم، وزاد من قوة إقناعه تركيزه على قيم ومعاني التسامح والوئام بين الديانات والعلاقات الإنسانية.

بتلك القدرة المذهلة على الاختراق السلس، أكسب ماهر بلده سمعة جيدة ووسع دائرة علاقاتها في مجالات كثيرة، دون أن يتنازل ذرة واحدة عن مبدأ آمن واقتنع به لصالح أمته العربية والإسلامية. لم يكن يخشى في الحق لومة لائم من مسؤولين توالوا على الإدارة الأميركية حين يسمعهم ما لا يروقهم من مواقف، لكنه يمرر، كعادته، حديثه ورسائله الدبلوماسية الواضحة أو المشفرة بلباقة وكياسة جعلت منه دائما المجامل الذي لا يحابي.

ستلازم ماهر صفات الجهر بالرأي الحق حتى حيال أشقائه العرب وإخوانه المسلمين، وقد أصبح وزيرا لخارجية مصر حيث حضرت معه دورات واجتماعات «ماراطونية» في مقر الجامعة العربية بالقاهرة وفي منظمة المؤتمر الإسلامي، كما جمعتنا لقاءات مع الجانب الأوروبي ضمن إطار مسار برشلونة. نفس الثبات على المبادئ واللباقة في أسلوب الإقناع. لا يحرج ولا يجرح أحدا رغم حساسية المواضيع التي يتطرق إليها ودقة الظروف المصاحبة لها. يستعين أحيانا بسلاح النكتة والدعابة حين يتأزم الموقف وتتوتر الأجواء.

في هذا السياق أذكر أننا حضرنا في مدينة دبلن الآيرلندية اجتماعا للدول الأعضاء في مسار برشلونة. كنت شخصيا متضايقا من سلوك متكرر للجانب الأوروبي. شعرنا معه أننا دعينا فقط للتصفيق والمصادقة على توصيات أُعدت سلفا، دون نقاش أو تبادل للرأي بين الشركاء. توصيات لا تعير أي اهتمام لمطالب وانشغالات وملاحظات الطرف العربي.

قررنا التمرد على ذلك الأسلوب وفوضنا أمر الحديث باسمنا لزميلنا أحمد ماهر، الذي استهل تدخله بالتنبيه إلى خلو لافتة الاجتماع من ذكر الحضور العربي المشارك في الاجتماع. مضى في تعداد الانتقادات والمؤاخذات المرتبة في ذهنه، ما أدى إلى تمديد الاجتماع يوما كاملا لينتهي بالتنصيص على المواقف العربية في البيان الختامي. وهذه واحدة من «المعارك» الدبلوماسية الكثيرة التي قدر لي أن أشهد «ماهر» يخوض غمارها. لم يكن «ماهر» خلال مهامه الرسمية يتقمص أدوارا وظيفية، بل كان معبرا عن قناعات وطنية ومخلصا لمبادئ ووفيا لقيم، لذلك استمر وقد ترك الوزارة مدافعا عن الدبلوماسية المصرية رغم ما كان له في بعض الأحيان من مآخذ أو اعتراض على أداء معين بخصوص قضايا محددة. أكاد أجزم أن مصر كانت عنده فوق كل اعتبار.

زاوج الراحل، بمهارة بين الدبلوماسية والثقافة، وهو توجه لم يكن غريبا على من اعتبره أشد المدمنين على القراءة، حريصا على الاستزادة من الاطلاع. لازمه فضول معرفي جعله يسأل باستمرار، يحاور ويدقق. يجد المتعة والراحة حينما ينخرط في خضم نقاش فكري.

شاهدته في مواسم أصيلة الثقافية التي واظب على حضورها والمشاركة في فعالياتها منذ عام 2001. افتقدنا حضوره في الدورة الأخيرة. وجد نفسه موزعا بين البر بوالدته المريضة وترك مقعده فارغا بقاعة الندوات بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية.

شارك بتألق في جميع الندوات، وكان حريصا على حضور الجلسات، والإصغاء لكل المداخلات والعروض، حتى إذا ناقشها كان على بينة من أمره. اعتاد أن يدون انطباعاته تظاهرات أصيلة ونشرها في المنابر الإعلامية التي ساهم فيها بالكتابة والتحليل. عرفه سكان أصيلة. تعودوا على رؤيته في الصباح الباكر، يرتاد الأسواق الشعبية بحثا عن فواكه الصيف، ينتظر قدوم القرويات وقد حملن «سلالا» محشوة بتين المنطقة اللذيذ، ليأخذ منه نصيبه ثم يعرج بعد ذلك على كشك الصحف لينال وجبته اليومية منها.

اعتدت أن أصطحبه معي في جولة على شاطئ أصيلة. كنا نسرع الخطى دون أن نحس وكأننا مدفوعون برياح الأطلسي المنعشة. نستعيد ذكريات الماضي الجميل. يعلق على الأحداث بدعابة غير متكلفة إلى أن يلتحق بنا أصدقاء مدعوون، يشاركوننا النقاش ويقاسموننا غذاء بسيطا يكون سمك السردين المشوي وسلطة وصحن العدس أهم مكوناته.

ستصبح مواسم أصيلة يتيمة من دونه. سيفتقد وجهه الأبوي البشوش سكان المدينة البسطاء وأطفالها الذين يتطلعون إلى الفوز بجائزة التميز التي رصدها من ماله الخاص لمن يتفوق من الكبار والصغار في خدمة المدينة وسكانها.

كانت جائزة الدورة الأخيرة، التي حمل إلينا قيمتها السفير الدكتور نبيل فهمي، من نصيب مجموعة مدرسين وفروا دروس الدعم والتقوية للتلاميذ الأصيليين المعوزين. اقتدى «ماهر» بزميله ومواطنه الصديق الدكتور إبراهيم عويس الذي خصص منذ سنوات جائزة نقدية للحاصلين من طلبة أصيلة على أكبر معدل في امتحانات البكالوريا (السنوية العامة) المغربية. يتجشم في غالب الأحيان متاعب السفر ليسلمها بنفسه إلى من استحقها. وحينما يتعذر عليه القدوم إلى أصيلة، ينيب عنه في التفاتة إنسانية، ابني «أمين».

سنشتاق إلى رفقة «ماهر»، لضحكاته الصافية، إلى دعابته وقفشاته الذكية. سيفتقده المستخدمون في قصر الثقافة بأصيلة حيث آثر أن يقيم مع زوجته في جناح مطل على الأطلسي، فقد ارتبطوا بعلاقات ألفة معه. يقومون بخدمة الزوجين الفاضلين ويسهرون على خدمتهما. كم سيكون حزينا ذلك الجناح في موسم أصيلة الثقافي الدولي القادم من دون الثنائي العذب: هدى وأحمد.

ليرحمه الله رحمة واسعة، وألهم رفيقة الدرب والعِشرة جميل الصبر والسلوان.

* وزير خارجية المغرب السابق، وأمين عام «مؤسسة منتدى أصيلة»