ذكرى غازي القصيبي أخذت منحى آخر في المنامة، فبدعوة من الشيخة مي الخليفة وزيرة الثقافة في البحرين، احتُفل بذكرى المرحوم غازي في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في المحرق، وحضره جمع غفير من محبيه في أقطار الخليج وبعض العرب. غازي يعتبره كثيرون رائدا من رواد الاستنارة، جعل الحب والتسامح طريقا للتبشير لتلك الاستنارة من خلال إنتاجه الشعري أو النثري، وكان بذلك إحدى أيقونات التنوير في المنطقة.
الاحتفال كان مختلفا؛ فبعد أن ألقى رفيق عمره الشاعر محمد رفيع بعض القصائد التي كان يهواها الفقيد، واستعرض الناقد عبده وازن طرفا من رُؤيته لنثر غازي، عزفت الموسيقى وغنت الفنانة غادة شبير بصوتها العذب، تصحبها الفنانة إيمان حمصي على آلة القانون، عددا من قصائد غازي الجميلة المفعمة بالحب والأمل. وكان هذا هو الاحتفال الحضاري بذكراه، كما أعتقد أنه تمناه.
على المقلب الآخر، تضج البحرين بالحركة، وهي حركة فيها من الألم شيء، ومن الأمل شيء آخر.
أما الألم فهو ما أحدثته حركة الشغب بارتكاب أعمال عنف في الشارع، التي حدثت في بداية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وهي حركة تصاعدت في توخيها للعنف حد شفير الفوضى، حتى كشفت السلطة البحرينية عن مجموعة استهدفت الإخلال بالأمن الوطني، وما تلا ذلك من ردود فعل تمثلت في تنادي الأطياف السياسية شاجبة ومستنكرة، وتوحد المختلفين في رفض العنف من أين أتى، وعلى أي شاكلة تمثل.
أما الأمل، فهو الانتخابات الوشيكة للدورة التشريعية الثالثة، بعد انقضاء دورتين للمجلس النيابي، بعد حزمة الإصلاحات في مشروع الملك حمد بن عيسى الذي نقل البحرين في بداية الألفية الثالثة – على الرغم من كل الظروف الضاغطة - إلى مكان تجري فيه الآن تجربة ديمقراطية، لا تخلو من المنغصات ولكنها لا تتخلى عن الأمل على الرغم من الغليان الملموس في المنطقة.
في الدورتين السابقتين حدثت اختراقات إيجابية وانتكاسات أيضا، هكذا هي الممارسة قد تحسن من نفسها وقد تتدهور، حيث إن البشر هم وسيلتها ومنفذوها. نبتعد زمنيا عن الانتخابات التي سوف تجري في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أقل من ثلاث أسابيع، لذلك فإن الاحتدام السياسي له ضجيج لا يخلو من شدة. ومن قابلت واستمعت إليهم - وجلهم من المواطنين العاديين - يرى بعضهم أن التجربة تستحق الخوض ويمكن تطويرها، وبعضهم وصل بهم الأمر إلى حد التذمر من بعض نتائجها وجاهروا بالاحتجاج عليها علنا من زاوية أنها تحض على التشدد المذهبي الذي يقابله بالضرورة تشدد مخالف له، وتتعرض الأوطان للخطر، وهي وجهة نظر تصل إلى القول إن ثقافتنا لم تصل بعد إلى قبول الاختلاف السياسي من دون تكفير أو تخوين!
يتسابق المرشحون المائة والسبعون (تقريبا) على أربعين مقعدا، هي مجموع مقاعد مجلس النواب. وعلى صغر البحرين جغرافيا وسكانيا، فقد عددت عشرة تجمعات سياسية، بينها «أصحاب مرجعية إسلامية، سواء سنية أو شيعية» وبينها عدد من التجمعات السياسية المدنية الأخرى. الظاهرة الأخرى التي تلفت النظر، أنه بمجرد قفل باب الترشيح تبين أن خمسة نواب (بينهم امرأة) قد حصلوا على التزكية، مما يعني أن هناك 8% من الأعضاء ضمنوا مقاعدهم سلفا.
بعض المرشحين اختار شعارات زاعقة كالعادة عن طريق إعلام المشاغبة لجلب الأصوات، وبعضهم اختار شعارات معيشية، أجورا ورواتب، وآخرون اجتماعية، وفي هذا النموذج الأخير لم يتعظ أحد من مرشح سابق حيث وعد - في حال نجاحه - بأن يسعى إلى نشر الحجاب بين النساء وقد سقط في الانتخابات السابقة بامتياز، كناية على أن المجتمع المدني يقاوم التضييق عليه. بعضهم هذه المرة عاد إلى التشدد نفسه.
وعلى ذكر النساء، فإن عدد المرشحات أيضا لافت للنظر، انتشر ترشحهن على عدد من الدوائر أكثر مما كان في الدورتين السابقتين. ومن اللافت أيضا أن المعركة الانتخابية تظهر - كالعادة في العالم الثالث - كثيرا من الانشقاقات بين المتحالفين؛ فعلى الرغم من أن «الأصالة» (سلف) و«المنبر الإسلامي» (إخوان) يستقيان مرجعيتهما من نفس مصادر الإسلام السياسي السني - إن صحت التسمية - فإنهما مختلفان على بعض المقاعد في بعض الدوائر، وعلى وفاق في دوائر أخرى. وبالتالي توجب ذكر «مساوئ» الطرف الآخر في الاختلاف كسبا للأصوات، ومحاسن الطرف الآخر في دوائر أخرى، أيضا كسبا للأصوات، وتلك مفارقة ديمقراطية عربية بامتياز. ونشهد الوضع نفسه بين «الوفاق» و«الرابطة»؛ إذ إن كليهما يتكئ على المرجعية الشيعية، إلا أنهما في بعض الدوائر متخاصمان في السياسة. وربما أصبحت هذه الظاهرة مثارا لدراسة المشتغلين بالاجتماع السياسي، الذين قد يصلون إلى نتيجة أن القصة لا تكمن في موضوع «التدين» بقدر ما هي «سياسة»، وهذه هي المعضلة نفسها التي تواجهها حركة التطور العربي في كل مكان من وطننا العربي، توسل السياسي بالديني.
وهناك ظاهرة أخرى لافته، هي كثرة المرشحين المستقلين، فهي ظاهرة تتسع كلما أبحرنا في العمل «الديمقراطي» في الخليج، وقد تكررت في الكويت؛ إذ إن كثيرا من الناخبين ينظرون إلى الإنجازات المتواضعة للقوى المسيسة، ويتطلعون إلى مكان آخر قد يأتي منه الفرج. لذلك، فإن بعض المرشحين الحاليين، ممن كانوا أعضاء في تنظيمات سياسية، هجروا هذه التنظيمات إلى واحة «الاستقلال». وربما كان تعبير «هجروا» كلمة لا تعبر بدقة عن المعنى المراد لفعل بعضهم، ولكنهم بالتأكيد تغطوا بالاستقلالية لأنهم وجدوا فيها فرصا أكبر لقنص بعض أصوات المترددين والمحتجين على الاحتكار السياسي لبعض الجمعيات السياسية أو الطائفية، رغم علاقتهم غير المعلنة بها.
يقول المطلعون إن الحملة الانتخابية للمرشح الواحد تكلف بين 12 ألف دينار و25 ألف دينار، وهو مبلغ وإن كان زهيدا للبعض فهو مكلف للبعض الآخر من المستقلين. وفي الانتخابات عادة ما تبرز ظاهرة ما يمكن أن يسمى بالمزايدات المضافة، لذلك تسري لدى البعض فكرة مقاطعة الانتخابات، وهي فكرة يتبناها بعض الغلاة، إلا أنها لا تجد لها مساحة واسعة من القبول. من مظاهر الانتخابات في البحرين استخدام المساجد ولو بطريقة مبطنة، والحسينيات أيضا، كما كثرت اللجان النسائية لجلب أصوات النساء، التي هي في العادة تذهب إلى صناديق الانتخاب بتردد، وأكثر ما يوجد في البحرين اليوم من بضاعة سياسية هو الوعود البراقة، التي يعرضها من لا يقدر على من يرغب.
ولا تخلو الانتخابات في البحرين من طرائف أيضا؛ منها أن أحدهم، وهو يعيش خارج البحرين، حضر للترشح ثم غادر، اعتمادا على «حكمة الناخب في اختياره»!!، أما الشعار الذي لم أفهمه فهو ذاك الذي علقه أحدهم على لافتة قائلا: «ننظر في الصميم». والحقيقة، لا أعرف ماذا ينظر إليه المرشح وعن أي صميم يتحدث!!
كل هذا الحراك السياسي، الذي سيبلغ خط النهاية يوم 23 أكتوبر الحالي، سيكون الرابح فيه هو الاستقرار الذي توفره فكرة المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار السياسي. وعلى الرغم من كل ما تحتويه التجربة من منغصات تمليها المصالح والأهواء وتحد منها درجة النضج السياسي والاجتماعي للمتسابقين، فإن مشروع الملك حمد الإصلاحي يحقق المزيد من التقدم في أجواء خليجية مكفهرة لا تخفى على الحصيف.
من هنا، فإن إكمال المشروع يحتاج إلى كل الصبر والحكمة إلى جانب الأمل، وهو ما كان غازي القصيبي يبشر به، وهو الذي قال بعد افتتاح جسر الملك فهد الذي ربط السعودية بالبحرين:
جسر من الحب أم جسر من الحجر
ذاك الذي يربط الصحراء بالجزر؟
وهل أعمق من هذا الحب..