الجد والجدوى في المفاوضات

TT

تشابك معاني اللغة حين إسقاطها على الأحداث الجارية، يأخذ الواحد في عوالم تربط الحدث بالكلمة، وتغوص في أعماق المعاني بحثا عن معنى أعمق من المعاني السطحية للعبارات السياسية التي يطلقها الساسة كل حين.

كان لتصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقع لغوي مثير حين صرّح بأن مفاوضات السلام مع الإسرائيليين ستصبح بلا جدوى إن استأنف الإسرائيليون بناء المستوطنات. وراحت الكلمات الثلاث تطن في الأذن من كثرة تكرارها في كتابات الكتاب، وتعليقات المتابعين وتحليلات المحللين لهذه المفاوضات. فالجدية والجدوى والمفاوضات أصبحت كلمات متلازمة بشكل مستمر كلما تطرق المحللون وكتب الكتاب وعلق المعلقون حول عملية السلام.

المفاوضات ستنفض - كما يهدد الرئيس عباس - لأن الكيل قد طفح وفاض، خاصة أن أرواح الفلسطينيين لا تزال تفيض على ضربات القوات الإسرائيلية، فالمفاوضات مع استمرار الاستيطان تعني أن الفلسطينيين لن يخرجوا بأية جدوى، والجدوى بالعربية تعني المقابل أو الهدية أو العطية. ويمكن القول إنهم لن يخرجوا منها حتى بجَدْي - وهو صغير الماعز - أو التيس الصغير. وأصوات التذمر من جدوى المفاوضات تتكاثر يوما بعد يوم بين الفلسطينيين، ولسان حالهم يقول: لا جدية إسرائيلية بالمفاوضات ما دامت مستمرة في بناء المستوطنات، ولا جدوى من التفاوض ما داموا يجدّون - أي يستعجلون - في بناء المستوطنات.

المستوطنون بقيادة المستوطن أفيغدور ليبرمان- وزير الخارجية الإسرائيلي- استأنفوا بناء المستوطنات وشعارهم: من جدّ بنى، ومن فاوض خسر.

الرئيس عباس في وضع لا يحسد عليه، فإن هو استمر في التفاوض مع استمرار الاستيطان، فسيعيّره خصومه - وعلى رأسهم حماس - بالتفاوض بلا جدوى، وسينفض من حوله رفاقه في منظمة التحرير الفلسطينية الذين لن يجدوا في استمرار التفاوض جديدا، وسيطالبون بجدّ - أي قطع - التفاوض مع الجانب الإسرائيلي.

حماس لا تعتقد بأن المفاوضات ستقود للسلام وأن سياسة إسرائيل ثابتة بنفس ثبات الجديدين، وهما الليل والنهار، ولا يرون بديلا عن المقاومة لتحرير فلسطين من جدّ - شاطئ - النهر إلى جدّ البحر المتوسط.

الأمر الذي استجد في معادلة التفاوض أن الأميركيين أصبحوا يتكلمون بلغة جديدة وجادة لأنهم يقولون إن المصلحة القومية والأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية تتطلب حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي، لذا فإن إدارة أوباما تجدّ - أي تستعجل - التفاوض وعدم جدّها - أي قطعها - وخصوصا أنها مقبلة على انتخابات للكونغرس الشهر المقبل قد تكون حاسمة في الحكم على سياسات أوباما عموما. وتحرص إدارة أوباما على ألا يخرج الفلسطينيون من جادة - طريق - المفاوضات، في وقت يظهرون الجدّ للإسرائيليين بوقف الاستيطان.

المستوطنون استأنفوا البناء بالضفة الغربية على ما يظنونه أرض أجدادهم ويسمونها يهودا والسامرة. حركة البناء استؤنفت بوتيرة أقل سرعة من السابق، والتهديد بوقف التفاوض قائم من قبل الفلسطينيين. والمبعوث الأميركي جورج ميتشل في وضع حرج جدا. نتنياهو بدوره، لا يقف على أرض جدجد - أي صلبة - فشقة خلافه مع وزير خارجيته تتسع يوما بعد يوم، ويسير على حبل مشدود: فمن ناحية هو يريد الحفاظ على تماسك حكومته الملونة المشارب من باراك يسارا وحتى ليبرمان يمينا، ومن ناحية أخرى، هو لا يريد أن يثير غضب أميركا وأوروبا عليه.

الأيام المقبلة حاسمة في مسألة المفاوضات مع الإسرائيليين، وقد أصاب الرئيس عباس «من جدّ» - كما يقول أهل جدة، حين قال إن الخيار بين اثنين لا ثالث لهما: إما السلام، أو الاستيطان. فإن استمرت إسرائيل ببناء المستوطنات، فعندها يصبح لا جدوى للمفاوضات لعدم جديتها، وساعتها فإن على الرئيس عباس أن يوقف المفاوضات وأن «يفضها سيرة»، وليتحمل الكل مسؤولياته.