في الكتلة الفائزة: الجدل القانوني والجدل السياسي

TT

منذ نهاية الانتخابات العراقية ظل موضوع الكتلة الفائزة محلا للنقاش والجدل الذي كان في أغلبه جدلا سياسيا غير معني بشكل جدي بنصوص الدستور والقانون، وسيظل هذا الجدل كذلك لأننا في ظل نظام سياسي ما زال حكم المؤسسات فيه ضعيفا وما زال الميل لتطويع القانون بدل الاحتكام إليه سائدا. تركز الجدل على المادة 76 من الدستور والتي تنص في الفقرة (أ) على ما يلي: «يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عددا بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوما من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية». القائمة العراقية الحاصلة على أكبر عدد من مقاعد البرلمان (91) اعتبرت أنها تمثل الكتلة النيابية الأكثر عددا وبالتالي الأحق بالتكليف، لكن مع حقيقة أن هذه القائمة لا تمتلك 51% من المقاعد أي الأغلبية المطلقة فإنها بمفردها لا تستطيع تشكيل حكومة تنال الثقة، ومن هنا جاء تفسير المحكمة الاتحادية بأن الكتلة النيابية الأكثر عددا هي تلك التي تتشكل قبل أو بعد الانتخابات وتكون قادرة على تكوين الأغلبية المطلقة.

هنا لا بد أن نفهم أن طبيعة النظام البرلماني القائم على التمثيل النسبي وفي ظل وجود عدة قوى سياسية وليس قوتين وحيدتين تمثلان الحكومة والمعارضة، يفرض بطبيعة الحال إنتاج ائتلافات حكومية أساسها أن الائتلاف الذي يصل إلى نسبة الـ50+1 هو القادر على تمرير تشكيلته الحكومية، والتعويل على أن كتلة ما تمتلك مقعدا أو مقعدين أكثر من غيرها لا يعني بالضرورة أنها هي «الفائزة» إذا ما فهمنا الفوز على أنه ضمان الأغلبية المطلقة. وفي الحالة العراقية حصل ائتلاف العراقية على ما نسبته 28% من المقاعد، وحصل ائتلاف دولة القانون على 27.3% وحصل الائتلاف الوطني على 21.5%، مما يعني أن أيا من هذه الأطراف لم يحصل على أغلبية مطلقة.

الخلاف يتركز حول من يجب تكليفه أولا بتشكيل الحكومة، حيث تدعي القائمة العراقية بأن لها هذا الحق باعتبارها الكتلة الانتخابية الأكبر، ويدعي التحالف الوطني الذي تشكل من دولة القانون والائتلاف الوطني وبات يحوز على 48.9% من نسبة المقاعد بأنه يمثل الكتلة النيابية الأكبر عددا وبالتالي هو صاحب الأحقية. الشيء نفسه شهدته ألمانيا بعد الانتخابات النيابية عام 2005، حيث حصل الحزب الديمقراطي الاشتراكي على أكبر عدد من المقاعد (251) في حين حل الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة ميركل ثانيا بعدد مقاعد هو (248)، غير أن ميركل تحالفت مع الطرف الذي حل ثالثا وهو الحزب الديمقراطي الحر الذي امتلك (47) مقعدا، وبالتالي ضمنت الأغلبية وأصبحت رئيسة للوزراء دون أن تتهم بخرق الدستور أو اللاشرعية. الشيء نفسه حصل في الانتخابات الإسرائيلية العام الماضي حيث حصل كاديما على (28) مقعدا وحصل الليكود على (27) إلا أن الأخير تمكن من تشكيل الحكومة بالتحالف مع الأحزاب الدينية.

لكن عند هذه النقطة ترد مسألة ذات طابع شكلي تبرر مطلب القائمة العراقية بأن تكون هي صاحبة التكليف الأول، ففي إسرائيل كلف الرئيس ليفني زعيمة كاديما بتشكيل الحكومة وعندما فشلت تم تكليف نتنياهو. غير أن هذا التحفظ يواجه بحقيقة أن طبيعة النظام العراقي مختلفة عن الكثير من الأنظمة البرلمانية التي يتم فيها فصل موقع رئيس الجمهورية أو الملك عن الانتخابات النيابية، ففي الحالة الإسرائيلية هناك رئيس منتخب ودورته الانتخابية منفصلة عن الدورة الانتخابية البرلمانية، وفي هولندا وإسبانيا وبريطانيا هناك ملك يمارس الصلاحية الشكلية للتكليف، لكن في العراق رئاسة الجمهورية هي جزء من صفقة تشكيل الحكومة وحيث يعرف الدستور الأخيرة على أنها السلطة التنفيذية التي تتكون من مؤسستين، رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء. وبالتالي لا يوجد رئيس جمهورية بدورة انتخابية سارية ومنفصلة عن البرلمان حتى يكلف الكتلة صاحبة أعلى المقاعد، بل إن البرلمان وفق الدستور عليه أن ينعقد لينتخب رئيسا له، ثم رئيسا للجمهورية، وبعد ذلك يقوم رئيس الجمهورية بتكليف مرشح الكتلة «النيابية» الأكثر عددا. أي انه من الناحية العملية لا يوجد رئيس جمهورية قبل وجود كتلة نيابية قادرة على امتلاك الأغلبية لتمرير انتخاب هذا الرئيس، وعندما توجد هذه الكتلة فإنها بالضرورة تصبح الكتلة النيابية الأكثر عددا التي سيكلفها الرئيس بتشكيل الحكومة.

ربما هنالك حاجة لإعادة النظر في هذا الربط الدستوري وفصل رئاسة الجمهورية عن السلطة التنفيذية، ولكن ما دام الدستور النافذ حاليا لا يقول بهذا الفصل، تصبح مواصلة هذا الجدل عملية مدفوعة بدوافع سياسية لا يعنيها القانون إلا بقدر ما يقدم من فرص سياسية للمتنافسين.