النص التحتي وقدرته على تزييف وعي الناس

TT

النص التحتي (sub text) نقصد به ذلك النص غير المكتوب وغير المرئي والقادر على الرغم من ذلك على الوصول إلى وعي القارئ والتحكم فيه سلبا وإيجابا، أي قيادته حيث يريد الكاتب. كما نقصد به في حالة الخطابة - بما في ذلك الأحاديث التلفزيونية الطويلة - تلك الألفاظ غير المنطوقة التي تقود المستمع بما تحدثه من تأثيرات في وعيه، إلى هدف معاكس تماما، فربما تكون الكلمات المنطوقة في النص الظاهر على سبيل المثال هي: «اسمحوا لي بالتنحي عن منصبي»، بينما النص التحتي الأقوى تأثيرا لأنه يتعامل مع اللاوعي مباشرة هو: لا تسمحوا لي بذلك.. لا أريد أن أترك مكاني، هناك ظروف قاسية ترغمني على ذلك ولكني واثق أنكم ستقفون ضد هذه الظروف وتطالبون ببقائي.

المثال السابق بالطبع يتطلب المزيد من الشرح لإثبات أن كاتب الخطاب كان واعيا أشد الوعي بما سيفعله النص التحتي في عقول الناس، وأنه سيقودهم حتما إلى عكس ما يطلبه منهم منطوق النص، هذا هو ما سأثبته لحضراتكم في فرصة قادمة. الواقع أن أقوى مثال لعبقرية النص التحتي في إلغاء نفس النص الذي يلتصق به، هو في خطبة أنطونيو التي ألقاها في رثاء يوليوس قيصر، لقد وعد قتلة قيصر بأنه لن يقول عنهم كلمة واحدة تسيء إليهم، ولقد بر بوعده بالفعل، وتكلم عنهم بوصفهم رجالا شرفاء يثق بهم، ويثق فيما قالوه عن يوليوس قيصر من أنه كان في طريقه لأن يكون ديكتاتورا ويقضي على الديمقراطية في روما، غير أنه هنا وعند هذه النقطة بالتحديد يفتح البوابة لنص خطابه التحتي: يقولون إنه ديكتاتور وأنا أصدقهم لأنهم جميعا رجال شرفاء، ولكن كيف يكون الرجل ديكتاتورا وهو الذي أوصى بأن تكونوا أنتم ورثته، كل مزارعه وحدائقه وممتلكاته كتبها لكم أنتم.. هل أقرأ لكم وصيته؟

هنا تنفجر الجماهير في حماسة طالبة منه أن يقرأ الوصية، في هذه اللحظة يكون النص التحتي قد حول الجماهير التي كانت منذ لحظات مع قتلة قيصر، إلى أعداء لهم يطلبون الثأر منهم، لاحظ الكلمات، أنا أصدقهم لأنهم شرفاء ولكن هل قيصر.. كذا وكذا.. ما سيصل إلى وعي الناس هو.. هم لا شرفاء ولا يحزنون، هم ليسوا أكثر من جماعة من المتآمرين القتلة.

أما الآن فسأقدم مثالا آخر على قدرة النص التحتي على الوصول بالمستمعين إلى الهدف الذي لم تسع إليه الألفاظ الفوقية أو الواضحة والمنطوقة، وهو ما ينطبق على ما قاله الأستاذ هيكل مؤخرا في قناة «الجزيرة» والذي دخل أدبياتنا السياسية المعاصرة باسم «فنجان القهوة الذي صنعه الرئيس السابق أنور السادات للرئيس الأسبق جمال عبد الناصر» قبل وفاته بساعات كما أثبته ياسر أيوب في «اليوم السابع» في 28 سبتمبر (أيلول) 2010: «ما قاله الأستاذ هيكل هو: (هناك شكوك أخذت بعض الناس إلى بعيد.. منها شكوك طالت الرئيس أنور السادات.. وأنا أظن وأعتقد أن هذا غير معقول.. وتصور أن السادات وضع السم لجمال عبد الناصر غير معقول لأسباب إنسانية أخلاقية عاطفية عملية، مليون سبب تؤكد أنه لم يكن في مقدور أنور السادات أن يقوم بذلك، ولكي يصدق أحد هذا الكلام، لا يكفي دليل واحد، بل لا بد من دليل ودليل ودليل)».

حاول معي الآن التعرف على النص التحتي الأكثر قوة ونفاذا إلى وعي الناس، هناك شكوك أخذت بعض الناس إلى بعيد، الشكوك بطبيعتها لا تعيش في الصحراوات بل داخل صدور البشر، والبشر لهم عقول ناقدة، وهذه الشكوك تعشش في عقول «البعض» بعد أن تجولت في عقولهم واعتمدوها فكرة صحيحة أرسلوها بعد ذلك إلى صدورهم لتستقر فيها، مجرد استخدام كلمة «البعض» يجرد النص المنطوق من أي حجة مهنية أو سياسية، وذلك لحساب النص التحتي، وعندما نقول إن هذه الشكوك ذهبت بالناس إلى بعيد فنحن نستخدم عمدا ألفاظا عاجزة عن الاستقرار في العقل لتحل محلها الكلمات غير المنطوقة، هذه الشكوك لم تقدهم إلى استنتاجات خاطئة، بل ذهبت بهم إلى بعيد، طبعا هناك أكثر من ألف كلمة عند الأستاذ هيكل كان من الممكن استخدامها ليؤكد بها أن هذه الشكوك ليست أكثر من خرافة، ولكنه لم يفعل وفضل أن تأخذهم هذه الشكوك وتأخذ معهم السادة المشاهدين، إلى بعيد، إلى أين؟ لا أحد يعرف.

ويقول النص المنطوق: منها شكوك طالت الرئيس السادات، وأنا أظن وأعتقد أن هذا غير معقول.. وتصور أن السادات وضع السم لجمال عبد الناصر (لاحظ صرامة الجملة وقوتها والفرق بينها وبين بقية الجمل التي تمشي بغير ثبات) غير معقول لأسباب إنسانية أخلاقية عاطفية عملية. طبعا المستمع يعرف جيدا أن صفحات الحوادث كل يوم تنشر عن جرائم قتل تمت على الرغم من وجود أسباب إنسانية وأخلاقية وعملية وعاطفية كانت تحتم عدم حدوثها، ثم يكمل: «إن هناك مليون سبب تؤكد أنه لم يكن في (مقدور) أنور السادات أن يقوم بذلك»، كانت العقبة إذن هي عدم القدرة فقط، ثم يواصل: «ولكي يصدق أحد هذا الكلام، لا يكفي دليل واحد فقط». الكلمات السابقة من النوع الذي لا يضيف شيئا ولا يعني شيئا عند المستمع أو القارئ، إنه فقط يتيح الفرصة للنص التحتي للتسلل وإيجاد مكان يستقر فيه في وعي الناس «لا يكفي دليل واحد» هكذا يفهم المتلقي أن هناك دليلا واحدا على قتل السادات عبد الناصر، «..لكي يصدق الناس هذا الكلام، بل لا بد من دليل ودليل ودليل»، وكأن المطلوب أن تصدق الناس هذا الكلام، وأن ما يمنعهم من ذلك هو انعدام الأدلة الكافية وليس أن الحكاية كلها لم تحدث من الأساس. هكذا حكم الأستاذ هيكل على المتهم بالبراءة ليس لأنه لم يرتكب الجريمة التي يحاكمه بمقتضاها، بل لعدم كفاية الأدلة.

في مصر الناصرية ومصر الساداتية عشت على كل مقاهيهما في مهب ومصب كل إشاعاتها ولم أسمع شائعة تتكلم عن حكاية فنجان القهوة هذه، وفي مصر عندما يتعكر مزاج شخص ما وخاصة عندما يكون أهم زعماء المنطقة بسبب خلافه مع أبو عمار، فالبديهي والأقرب إلى العقل هو أن يشرب كوبا من عصير الليمون، وفي مثل هذه الظروف لن يدخل السادات المطبخ لعمل القهوة أو الليمون فالمشهد يحتم جملة حوار واحدة: «ولا يهمك يا ريس.. اعمل لنا عصير ليمون يا بوداوود.. واعمل لنا القهوة بعديها».

من المستحيل أن يكون الرئيس عبد الناصر في حالة مزاجية رديئة، ويغيب عنه أحد مساعديه ولو لدقيقة واحدة حتى لو كان سيقضيها في المطبخ.