نجم جديد في سماء العود

TT

شهدت قبل أيام مولد كوكب جديد في دنيا الموسيقى العربية، عندما ذهبت إلى قاعة بروناي في جامعة لندن لسماع ما يقوله على العود وعلى لسانه الموسيقي العراقي الشاب خيام اللامي. كانت محاضرة استعرض فيها تاريخ آلة العود، التي تتنازع على اختراعها كل شعوب الشرق الأوسط بعد أن أصبحت سيدة الموسيقى الشرقية. لا يمكن أن تحضر اليوم حفلة موسيقية شرق أوسطية من دون أن ترى العود يتوسطها في المقدمة. إنه ملح الطعام. للعود رنة تثير العواطف، مما يحملني على الاعتقاد بأن القوم كانوا يأخذون أوتاره من «مصارين» المفكرين والشعراء الأحرار الذين جزت رؤوسهم السلطات.

استعرض خيام اللامي مميزات المدارس الثلاث للعود: مدرسة القاهرة في مصر، والمدرسة العثمانية في اسطنبول، ومدرسة بغداد في العراق. وقدم نماذج قديمة وحديثة من كل مدرسة.

لم تكن مدرسة بغداد الحداثية التي ينتمي إليها اللامي معروفة حتى الخمسينات من القرن الماضي. آه!.. رعاك الله يا خمسينات العراق! كل ما أبدعه العراقيون في العصر الحديث، من شعر وأدب وموسيقى وفنون تشكيلية، يعود لتلك المرحلة التي أعتز بمعاصرتها وانتمائي إليها. ظهر فيها كل أولئك الرواد الذين قادوا ثورة الفكر. السياب ونازك في الشعر، فائق حسن في الرسم، وجواد سليم في النحت، والشريف محيي الدين حيدر في الموسيقى. ومن الشريف تبرعمت هذه الباقة من المؤلفين والعازفين على الوتريات: منير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وفؤاد سالم، وأخيرا نصير شمة، وهذا النجم الجديد خيام اللامي.

نشأ الشريف محيي الدين الذي ينتمي إلى الأسرة الهاشمية في اسطنبول، وتلقى فيها دروسه الأولى في العود. ويظهر وهو في هذا الجزء من القارة الأوروبية أن الحضارة الغربية قد استهوته. لمست فيه ذلك عندما كنت تلميذا لديه أثناء عمادته لمعهد الفنون الجميلة في بغداد. انطلق من العود إلى تعلم الموسيقى الغربية، وجره ذلك إلى قضاء عدة سنوات في الولايات المتحدة يدرس فيها الموسيقى الغربية أيضا. وكان لا بد لهذا المشوار مع موسيقى موتسارت وباخ وبيتهوفن أن يترك أثره فيه، فيحاول أن يطور عزفه على العود بالإشارة إلى ما ابتدعه الغربيون. وعندما دعته الحكومة العراقية للمجيء إلى بغداد لتأسيس معهد موسيقي فيها عام 1937 بث هذه الروح في تلامذته في المعهد الموسيقي الذي ضموه فيما بعد إلى معهد الفنون الجميلة، الذي لعب دورا خطيرا في رعرعة ثورة الفن والفكر في عاصمة الرشيد، وأصبح واحة يقصدها الشعراء والأدباء والمفكرون عموما.

تميزت الفنون المعاصرة عالميا بظاهرة التداخل بين الفنون. ولحسن الحظ أن جسّم معهد الفنون هذا الاتجاه بجمعها في بناية واحدة، بحيث يتمرن التلميذ على العود أثناء سماعه تلميذة زميلة تعزف في الغرفة المجاورة على البيانو. ولا بد أن هذا الوضع الجغرافي أسهم في تعميق روح الأممية في الفنانين العراقيين.

فيما كنت أستمع لخيام يحاضر بلغة إنجليزية كواحد من أبنائها، وينظّر كأستاذ جامعي يعد نفسه لشهادة الماجستير، خشيت عليه من شيء واحد، وهو أن يطغى العلم على العزف، فيأفل ذلك النجم.