أميركا.. قراءة في تفاصيل الصورة

TT

من أثرى أثرياء مدينتنا العتيقة جدة رجل صاحب فلسفة عجيبة، أشاد عددا من البيوت في المدينة، لكنه لم يكمل أيا منها، فتجد بيتا بلا نوافذ، وآخر بلا أبواب، وثالثا بلا طلاء، وهكذا. وكان أهل المدينة يفسرون فعله خشية الحسد، فهو يترك هذه العناصر الناقصة أو الغائبة لدرء العيون، وظلت تلك البيوت حتى بعد وفاته على الحالة نفسها، وكأن وارثيها أو ملاكها الجدد آثروا السير على المنهاج نفسه. وحال مشاريع أميركا خارج أرضها يشبه حال ذلك الثري، فهي احتلت أفغانستان، وأنفقت مليارات الدولارات، وتكبدت الكثير من الصعوبات، ورغم ذلك لم تستطع أن تنهي نفوذ طالبان، فأينما أدارت ظهرها هناك أطلت طالبان برأسها، ولا يختلف حالها مع طالبان عن حالها مع «القاعدة»، فهي منذ سنوات تلاحق جسد «القاعدة»، ومع هذا ظلت عاجزة عن الوصول إلى الرأس، وظلت ملايينها المكافأة لرأسي الظواهري وبن لادن في الخزينة الأميركية في انتظار صاحب النصيب الذي قد لا يأتي، وفي العراق أسقطت نظام صدام حسين، ولكنها أهدت العراق بعد ذلك لدائرة نفوذ خصومها الإيرانيين. وفي مواجهة البرنامج النووي الإيراني تعهدت بالأمس بمنعه وإيقافه، واليوم تتحدث على استحياء عن إمكانية إنشاء مظلة لحماية أصدقائها. وفي غوانتانامو أرادت تربية أعدائها فتحولت سجونها هناك بفعل سوء المعاملة إلى مدارس لتخريج المزيد من المشاغبين، حتى حينما أرادت تسويق أفكارها في العالم العربي، تمخضت عن قناة، أنفقت عليها الملايين، وبشرت بقدومها الكثيرين، ومع هذا ولدت القناة هزيلة متواضعة لا يتجاوز أثرها دائرة العاملين فيها. وباختصار يمكن القول: إن جل أو كل مشاريع أميركا خارج أرضها ناقصة، وغير مكتملة، ولا تحقق أغراضها كاملة.

ومشكلة أميركا الحقيقية والجوهرية، على الرغم من كل الهالة التي تحيط بها في مجالات الاستخبارات والمعلومات والدراسات، أنها لم تستطع معرفة الآخر جيدا، فهي في نشوة قوتها لا تنصت لغير صوت ذاتها، ولا ترتهن في أحكامها لغير نموذج ثقافتها السائدة، فالإحساس بالعظمة يحول دون فهم الآخر جيدا، وهذا سبب رئيسي في إخفاق مشاريع أميركا الخارجية، خاصة ما يتصل برسم صورة مقبولة لها في عيون العالم، وإيقاف تنامي العداء ضدها، رغم أن لأميركا من الأدوار والإسهامات والمواقف ما يمكن أن يصب في كفة تجميل الصورة، فأميركا كغيرها من دول العالم، لها وعليها، وأنا كأحد الذين عاشوا على أرضها بضع سنوات أستطيع أن أميز جيدا تباين الصورة بين أميركا وصورتها الخارجية.. بين الشعب الأميركي، وبعض سياسات بلاده الدولية، فأميركا الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، هي أميركا التي لا يمكن إسقاطها، في حسابات الصورة، مهما علق بها - أي الصورة - من شوائب.

[email protected]