الإعلام كلاعب في السياسة

TT

تبنى هذا الأسبوع مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تقريرا يدين إسرائيل لهجومها على أسطول الحرية في 31 مايو (أيار) الماضي، وقد ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق في مجريات الاعتداء العسكري الإسرائيلي على نشطاء الحرية العزل من السلاح، أن «ثمة أدلة تدعم ملاحقة إسرائيل، لارتكابها جريمة القتل المتعمد والتعذيب والمعاملة غير الإنسانية، الأمر الذي تسبب، عمدا، بآلام كبيرة وبجروح خطيرة». وأضاف الخبراء: «إن ملابسات مقتل ستة من الركاب (النشطاء على سفينة مرمرة)، على الأقل، تتطابق، بشكل ما، مع التصفية الجسدية خارج القانون وبشكل عشوائي من دون محاكمة»، مشيرين إلى «انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني». ومع ذلك، فإن السفير البلجيكي، الذي كان يتحدث باسم الاتحاد الأوروبي، أوصى بالامتناع عن التصويت، أما السفيرة الأميركية إيلين دوناهوي فقد أكدت أن واشنطن تعارض القرار، أي أنهما يؤيدان جرائم القتل والتعذيب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد المدنيين الأبرياء العزل ويعتبرانها مبررة، وعلى الرغم من تأكيد اللجنة أن «إسرائيل ارتكبت جريمة قتل متعمد»، فإن معدي التقرير لم يحيلوا إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية، كما كان يجب أن تحال إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية بعد تقرير غولدستون في أعقاب الحرب على غزة 2008 – 2009، والتي قتلت القوات الإسرائيلية فيها أكثر من 1400 مدني فلسطيني. وذكر دبلوماسيون أن القرارين أخذا في الاعتبار النداءات العامة والخاصة من الدول الغربية والسلطة الفلسطينية «لتجنب أي إجراء يخلق مصاعب جديدة لعملية السلام في الشرق الأوسط» التي استؤنفت مؤخرا، غير أن نصي التقريرين يدعوان إلى إجراء مناقشات جديدة بشأن القضيتين في جلسة المجلس في مارس (آذار) وأبريل (نيسان) من العام المقبل!!

وهكذا يتم التعامل بكل هذه النعومة، واللطف، والهدوء، والتأجيل، والتمييع، مع جرائم قتل مدنيين أبرياء على الأرض وفي عرض البحر، فقط لأن الجناة هم جنود إسرائيليون، تدعمهم وتبرر لهم القوى الغربية جرائمهم كلها؛ لأن الضحايا عرب ومسلمون من فلسطين وتركيا. وحتى الحقائق التي نشرت في التقرير، والتي وصفت «عنف الجيش الإسرائيلي» تجاه القافلة بـ«الوحشي»، لم تلق حظها في القنوات الفضائية ووسائل الإعلام، ولم يسمع بها سوى المتابع الحثيث للقضيتين؛ وذلك لأن وسائل الإعلام بمن يمتلكها ويوجهها، وصلت إلى مرحلة من التواطؤ مع اللاعبين السياسيين، وذلك من خلال انتقاء الأخبار وتسليط الأضواء كلها على ما تشاء منها، وإبقاء ما تشاء منها في الظلام.

هذه هي المرة الأولى التي يتبنى فيها مجلس حقوق الإنسان تقريرا يدين أعمال إسرائيل الوحشية، ومع ذلك لم يأخذ حقه من الدعم، أو التغطية، أو المتابعة السياسية والإعلامية، والسبب واضح؛ ذلك أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سارعا للوقوف ضده بحجة «الحرص على عملية السلام».

التدخل الثاني للإعلام بالسياسة في هذا الأسبوع، هو في إخفات الأضواء عن مجموعة ناشطين يهود على متن السفينة «أيرين» أبحروا إلى غزة للتأكيد للعالم أن اليهود لا يؤيدون جميعا سياسة الحصار الإسرائيلية، وكان بينهم الناجي من المحرقة رئوفين مسكوفتيش، 82 عاما، والقبطان غلين سيكر، من لندن، والضابط الإسرائيلي السابق إيتامار شابيرا، ومساعد القبطان يوناتان شابيرا.

إذ كيف يروج الإعلام لهذا الحدث، بينما يصرخ الحكام الإسرائيليون ويطالبون بيهودية دولة إسرائيل، ويحاولون بناء محادثات السلام على هذا الأساس، وهو أساس عنصري لكيان يضم مسلمين ومسيحيين، إلا إذا كان الهدف من هذا الشعار هو أيضا ارتكاب جريمة التطهير العرقي بحق مواطنين عاشوا على هذه الأرض منذ آلاف السنين كما حدث عام 1948؟

ومع أن هذه هي المرة الأولى التي يتخذ بها يهود إسرائيليون وأوروبيون وأميركيون خطوة مهمة وجريئة وذات مغزى إنساني ضد سياسات إسرائيل العنصرية، ويسهمون في كسر جدار الحقد (كما سموه)، فإن الإعلام لم يول هذه الخطوة المهمة ما تستحقه من اهتمام، ولم يبن عليها ليظهر كم هو عدد اليهود في العالم الذين يعبرون عن إدانتهم لجرائم إسرائيل العنصرية، وأن هذا الكيان لا يحظى بإجماع أتباع الديانة اليهودية كما يدعي، وأن الدين اليهودي بريء مما يمارسه هذا الكيان من قتل وتعذيب وتشريد. ودور الإعلام هنا يظهر في الانتقاء أولا، ومدى الترويج أو عدمه ثانيا.

كما أن ما كتبه روني كاسرلز (انظر جريدة «لوس أنجليس تايمز» 29/9/2010) والذي يعبر عن شرف اليهود وكرامتهم بمواقفهم المؤيدة للعدالة في فلسطين، عن حملة مقاطعة إسرائيل في الجامعات والنقابات في جنوب أفريقيا، وما تحققه حملات المقاطعة لإسرائيل اليوم من آيرلندا، إلى الولايات المتحدة، أمر في غاية الأهمية؛ لأنه يذكر ببداية انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وفي هذا برهان على تعاظم وقوف اليهود ضد الإجرام الإسرائيلي، وعلى تصاعد حملات المقاطعة ضد الكيان الصهيوني.

وحتى حين تكون إسرائيل المسؤولة الوحيدة عن تعثر المفاوضات، فإن اللغة التي يستخدمها الناطق باسم الخارجية الأميركية، تحاول بكل المعايير عدم تحميل إسرائيل مسؤولية تعثر المفاوضات؛ حيث قال فيليب كراولي، الناطق باسم الخارجية الأميركية، حين استأنفت إسرائيل عمليات الاستيطان التي تعني عمليا التطهير العرقي بحق السكان الأصليين، قال: «أصبنا بخيبة أمل، ولكننا نبقى مركزين على الهدف بعيد الأمد، وسوف نتحدث مع الأطراف حول منعكسات القرار الإسرائيلي». وأضاف: «في ضوء القرار الذي اتخذ البارحة، لدينا معضلة علينا أن نحلها؛ حيث لا توجد مفاوضات مباشرة على جدول الأعمال في هذه اللحظة». كيف وضع كلمة «أطراف» ليشير وكأن كل الأطراف مسؤولة عن هذه «العقبة»، بينما الكيان الإسرائيلي هو الوحيد المسؤول عن تعثر المفاوضات وفشلها منذ عشرين عاما، وليس فقط اليوم؟

تواطؤ السياسيين الغربيين مع جرائم إسرائيل، يتمثل في امتناعهم أو رفضهم التصويت على القرارات التي تدين المجرمين عندما يكون الضحايا عربا، يضاف إلى تواطؤ الإعلام بتجنبه المسألة، أو بوضعها تحت أضواء خافتة في الساحة الإعلامية، بحيث لا تلقى اهتماما ولا تشكل وقعا على آراء وضمائر الرأي العام. حتى قضية الاستيطان هذه، التي حولوها إلى مجرد كلمة، وإلى مجرد تأجيل، أو تأجيل التجميد لشهر أو شهرين، بينما هي تترجم على الواقع إلى جرائم تطهير عرقي للسكان الأصليين في حي سلوان وحي الجراح والقدس والخليل مثلا. فها هو الطفل الفلسطيني كرم خالد دعنا (13 عاما) يتلقى أمرا من محكمة عسكرية إسرائيلية بتشريده من منزله وإبعاده عن عائلته ووضعه في سجن عوفر، والذي قال لأبيه، والإسرائيليون يقتادونه بعيدا عنه: «أريد العودة إلى منزلنا لكي ألعب مع إخوتي وأنام في غرفتي». ماذا يقول سفير الاتحاد الأوروبي وسفيرة الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان لهذا الطفل؟ هل يمتنعان عن التصويت؟ وماذا إذا كان الطفل كرم خالد دعنا (13 عاما) أحد أبنائهما؟ فماذا يفعلان؟ وماذا يقولان لأهالي حي الجراح وحي سلوان في القدس، حيث بدأت «محكمة الاحتلال» باتخاذ أحكام للاستيلاء على حي عربي موغل في القدم والعراقة، تلو الآخر، بدلا من منزل تلو الآخر، وذلك دون شك لالتهام المدينة العربية القديمة وتهويدها في أسرع وقت ممكن؟

إنه لأمر متصل جدا، إنه في العام 2009، قتل أكثر من مائة صحافي وهم يمارسون عملهم، ولا شك لدي، أن هؤلاء جميعا من الساعين إلى إظهار الحقيقة حتى على حساب حياتهم التي ضحوا بها بنبل وشرف. فهل أصبح الإعلام اليوم، الذي كان الغرض منه نقل الحقائق، هل أصبح متواطئا مع الساسة لطمس الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بشتى السبل؟ وهل على الرأي العام البحث عن الأخبار الصادقة وإعادة جدولة أولوياتها؟ فالمطلوب مثلا من الإعلام، لكي يكون صادقا، هو سرد قصص معاناة السكان الأصليين مع المستوطنين، كما هي، على مسامع العالم، لنتجاوز بذلك أحكام سفراء الاتحاد الأوروبي وواشنطن، ونصل إلى ضمير العالم الحر، والذي، من دون شك، سيقف مع العدالة الفلسطينية حين يدرك حجم الظلم المفروض عليهم والممارس ضدهم في الليل والنهار.