الأزمة العراقية: الراهن والمنتظر

TT

تميزت العملية السياسية الجارية في العراق منذ 2003، بسيادة نظام ديمقراطي هش فرضته سلطات الاحتلال الأميركي، كحل أمثل لمشكلة الحكم في العراق بعد نهاية أعتى نظام طاغٍ في المنطقة. وعلى الرغم من أن غياب الديمقراطية كان إحدى أهم مشكلات النظام السابق، فإن استجابة العراقيين للنظام الديمقراطي الجديد جاءت مخيبة للآمال، وهذا ما عكسته نتائج أول انتخابات عامة في يناير (كانون الثاني) 2005، حيث انحاز الناخب العراقي للطائفة بدلا من البرنامج السياسي. وطوال الفترة الماضية ابتلي العراق بسلسلة من السياسات الأميركية الخاطئة، وبأسوأ جيران يمكن أن يقع بلد ما على حدودها، وبفئة حاكمة متعطشة للمناصب والثراء السريع، كل ذلك أدى إلى غياب أمن المواطن العراقي وتدهور خدماته الأساسية واستشراء الفساد بشكل لا مثيل له، وتعطل التنمية الاقتصادية، وانتشار البطالة والأمية. والأكثر من ذلك، فإن الميليشيات المتحاربة لا تتحارب في ما بينها بقدر ما توجه بنادقها إلى المواطنين العزل المنتمين لهذه أو تلك الطائفة أو إلى الاثنتين معا.

لم يتبق من ظلال الديمقراطية العراقية، إلا مظهران إيجابيان، وهما: الانتخابات الدورية الحرة، وحق التعبير عن الرأي، وهذه الأخيرة تواجه حالة مريعة من التقلص والانتهاك. وأثبتت التجربة الماضية بأنه لا يمكن اختزال الديمقراطية في الانتخابات، كما تفقد الانتخابات حيويتها إذا لم يتمكن المواطن من اختيار حكامه من خلالها.

على الرغم من ارتباط الأزمة الحالية بشكل مباشر بنتائج انتخابات مارس (آذار) 2010، وحق القائمة العراقية في تشكيل الحكومة، فإنها مرت بمراحل متعددة؛ لعل أبرز ملامحها ومحطاتها ما أعرض له الآن:

في الوقت الذي حصلت فيه قائمة رئيس الوزراء (دولة القانون) على نتائج باهرة في انتخابات مجالس المحافظات، جاءت النتائج مخيبة لآمال كثير من أقطاب «الائتلاف الوطني الموحد». فحصلت «دولة القانون» على 1362594 صوتا من مجموع 7143656 صوتا بنسبة 19.1% من مجموع الأصوات، تلتها قائمة المجلس الأعلى التي حصلت على 452183 صوتا بنسبة 6.3% من مجموع الأصوات، فالتيار الصدري بنسبة 5.9%، و«العراقية» بنسبة 4.9%.

ويعود نجاح قائمة رئيس الوزراء إلى استتباب الأمن نسبيا عام 2008، ومحاربته ميليشيا جيش المهدي في البصرة وبغداد، مما دعم صورته باعتباره رجل دولة وليس زعيم طائفة. وهذا ما دعا كثيرا من الناخبين الذين لا ينتمون للطائفة الشيعية إلى التصويت لقائمته. وكان هذا النجاح الباهر في انتخابات المحافظات مع أسباب أخرى، دافعا أساسيا لـ«دولة القانون» للانفراد بقائمة مستقلة عن «الائتلاف الموحد» في الانتخابات البرلمانية التالية.

لكن الأمور تغيرت بعد عام من انتخابات المحافظات، فقد أصيب كثير من المواطنين بخيبة أمل من «دولة القانون»، الذين لم يجدوا فيها فارقا كبيرا عن سابقاتها؛ فتكررت الممارسات القديمة نفسها؛ كالتعامل السيئ والمتعالي مع مطالب الناس في توفير الخدمات الأساسية والعمل والتنمية الاقتصادية، وعاد إلى البصرة مثلا فرض الحجاب على النساء، ومنع بيع الخمور وتعاطيها لبعض الوقت حتى تدخل رئيس الوزراء بنفسه.

منذ منتصف عام 2009 ومع بدء الحملة الإعلامية للانتخابات البرلمانية بدأت تظهر تدريجيا بوادر تصدع «الائتلاف الوطني الموحد». وتركز الخلاف بين «الدعوة» و«المجلس» على توزيع المقاعد بعد الانتخابات، خاصة رئاسة الحكومة، هذا، في حين أعلن حزب «الفضيلة» عدم رغبته في تكرار تجربته مع «الائتلاف»، بينما ركز التيار الصدري على تشكيل ائتلاف جديد برئاسته. وتلخصت الخلافات بين الائتلاف و«دولة القانون» على مطالب الأخيرة بتركيزها «على ثلاث نقاط أساسية؛ أولها أن يكون (المالكي) رئيسا لوزراء العراق لولاية ثانية، وأن تكون ثلاث وزارات سيادية من حصة حزبه، إضافة إلى أن يكون صاحب القرار في قيادة الائتلاف الموحد.. وأن تكون لقائمته نسبة 55% من مقاعد البرلمان، وأن يكون رئيس الكتلة النيابية من حزبه، وأن تكون وزارات الداخلية والكهرباء ووزارة سيادية أخرى من حصته، قد تكون وزارة النفط من بينها».

وجاءت تصريحات المسؤولين في الأحزاب الشيعية متركزة على ضرورة تكوين ائتلاف جديد «وطني ينبذ الطائفية» ويضم قوى وشخصيات من غير الطائفة الشيعية. وجاء تصريح أحمد الجلبي في هذا الخصوص بقوله بضرورة «السعي لإعادة تشكيل الائتلاف العراقي الموحد على أساس وطني، وأن يضم كتلا سياسية وشخصيات على أساس وطني، بعيدا على الطائفية». وفي الوقت الذي نجحت فيه المساعي لتوحيد الأحزاب الشيعية في ائتلاف جديد باسم جديد «الائتلاف الوطني العراقي»، ضم كلا من المجلس الأعلى والتيار الصدري ومنظمة بدر وحزب الفضيلة وتيار الإصلاح لإبراهيم الجعفري، بقي حزب الدعوة خارجه بسبب إصراره على الحصول على منصب رئيس الوزراء. ووصل الأمر لغاية تصريح المالكي الشهير «لا يوجد مرشح أفضل مني لرئاسة الحكومة».

وبحسب مراقبين سياسيين، فإن الائتلاف الجديد الذي ضم الصدر والحكيم جاء بمباركة إيرانية. فمن غير المتوقع دخولهما في تشكيل سياسي سريع ومرتبك من دون تدخل خارجي. ومهما بلغت حدة الخلافات الشيعية - الشيعية، فلا يبدو أن لدى هذه الأطراف فكرة تسليم منصب رئيس الوزراء إلى شخص من خارج الأحزاب الشيعية.

أصدرت «هيئة المساءلة والعدالة» بتاريخ 7 يناير قرارا بمنع صالح المطلك زعيم «الجبهة العراقية للحوار» إضافة إلى 14 كيانا آخر (650 مرشحا) من المشاركة في الانتخابات البرلمانية. واعتبرت الهيئة قرارها قطعيا وغير قابل للمراجعة، وعن تبرير موقفها حول توقيت حرمان المطلك من المشاركة في الانتخابات العامة بينما شارك في الانتخابات السابقة، قالت الهيئة إنها مسؤولة عن تطبيق المادة السابعة من الدستور المعنية بهذه القضايا.

ربما أن المسألة برمتها كانت قد أخذت مسارا آخر لو بقيت عند حدود تصريحات الهيئة المشكوك في شرعيتها، التي لم يتم تعينها من قبل البرلمان حسب الأصول الدستورية، لكن تصريحات المالكي المؤيدة لقرار هيئة المساءلة والعدالة أعطت للقضية بعدا جديدا.

وتعتبر هذه القضية وملابساتها واحدة من أهم القضايا التي مرت بها العملية السياسية في العراق بعد 2003، فقد جاءت بمثابة انقلاب على المسار الديمقراطي والمصالحة الوطنية التي كانت جارية في البلاد، وحتى إنها تتناقض مع توجهات المالكي خلال السنتين الماضيتين. وتشكل هذه القضية نواة أولية لحرب طائفية قادمة. وربما شكلت هذه إحدى المسائل التي فقد بها ائتلاف دولة القانون شعبيته التي حصل عليها قبل عام في انتخابات مجالس المحافظات.

أبرمت وزارة النفط العراقية اتفاقات مع شركات النفط الكبرى لرفع إنتاج النفط العراقي. وحسب وزير النفط، الشهرستاني، فإن العراق «سيتحول إلى ورشة عمل عملاقة فور أن تباشر كبريات الشركات النفطية العالمية، تنفيذ عقود جولتي التراخيص، وسنصل إلى سقف الـ12 مليون برميل بعد ست سنوات من الآن». وهذا في حد ذاته أمر مغر لأي سياسي عراقي في تبوؤ منصب رئيس الوزراء أو البقاء فيه؛ إذ إنه سيتمكن من مداواة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية كافة، من خلال إيرادات النفط. ومن دون رقابة ونظام قانوني ودستوري ديمقراطي، سيتحول من هو في هذا المنصب إلى حاكم مطلق، وهذا هو شأن كل الاقتصاديات الريعية؛ إذ يحدث الاقتصاد الريعي خللا بين الدولة والمجتمع، فمن خلال اعتماد الدولة على مصادر تمويل خارجي يقل ارتباطها بالمجتمع كمصدر للقيمة، ويصبح العمل المنتج ثانويا لوظيفة الدولة الريعية. وكلما قل اعتماد الدولة على المجتمع تنخفض مكانة المواطن فيه، بل يصبح عبئا على الدولة فتقوم بإطعامه ورشوته وإرهابه من أجل القبول بالأمر الواقع. ويؤدي هذا إلى انسلاخ الحكام وتعاليهم على المجتمع، وبالتالي الإخلال بأبسط المبادئ الديمقراطية التي تعتمد عليها الدولة الحديثة.

لا يمكن التكهن بما سينتهي إليه حال مشكلة الحكم القائمة في البلاد، فجميع السيناريوهات محتملة بما فيها الحرب الأهلية وتقسيم البلاد، خاصة أن الصراع بين القوائم الفائزة يتركز على توزيع المناصب والمصالح الآنية وليس على المبادئ والبرامج السياسية. ومن الملاحظ أن القوى السياسية الكردية لم تركز على المصلحة العراقية الواسعة، وإنما ركزت على قضاياها الإقليمية الضيقة. وأن عدم تبلور حركة ديمقراطية واسعة وموحدة ساعد على استمرار الطائفية والقومية الضيقة في السياسة العراقية.

أخيرا، فإن السيناريو المنطقي يتضمن تقاسم الحكومة بين «دولة القانون» و«العراقية» والكرد، وذلك لتمثيلهما الجغرافي والإثني والقومي لكل أرجاء العراق، وهو الحل الذي دعت إليه الإدارة الأميركية. لكن هذا السيناريو ذهب في مهب الريح بعد إصرار «دولة القانون» على الاستحواذ على منصب رئيس الوزراء للمالكي.

وحتى تبلور موقف جديد، سيبقى الشعب العراقي في الانتظار.

* كاتب عراقي