لا تخطيط بعد اليوم!

TT

العرب مغرمون منذ نعومة أظافرهم بـ«التخطيط»، أو بمفهوم التخطيط، بحسب فهمهم له، فكان الكبار دوما ما يفاجئون الصغار بالسؤال الشهير والمباغت، وهو: «ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟»، وعادة يكون الجواب بسيطا وبريئا؛ فيقول الطفل: «أريد أن أصبح طبيبا أو ضابطا أو مهندسا».. وهذه إجابة تقليدية آمنة ولا خوف منها، ولكن كل الخوف أن تكون الإجابة صادمة من النوع الذي حدث لصديق لي سافر إلى العاصمة الإنجليزية لندن مصطحبا معه، لأول مرة، ابنه الصغير، وركبا سيارة أجرة من المطار إلى الفندق، وانبهر الولد الصغير بالتجربة وبالتاكسي النظيف المميز بتصميمه الفريد وبكابينة القيادة الخاصة بالسائق المزودة بجهاز تخاطب، وصار كلما يسأله أحد: ماذا تريد أن تكون حين تكبر؟ يصيح، وهو يركض ويقفز: «أريد أن أكون سائق تاكسي»، وطبعا كل ذلك وسط خجل والده واحمرار وجهه ومحاولة إسكات ابنه بالقوة! تمعنت في هذه التجربة الصغيرة ورمزيتها وقارنتها بدور وزارات التخطيط في العالم العربي.

التخطيط كلمة كبيرة ومبهرة، ولكنها في حقيقة الأمر منعدمة الجدوى والنتيجة. التخطيط، كفكرة عامة، كان نتاجا للأنظمة الشمولية التي كان لديها التصور أنها ستخطط وتدبر وتعد لشعوبها كل تفاصيل حياتها، وهو ما يتبع في الأحزاب الشيوعية مثلا بالصين وكوبا وكوريا الشمالية، وتبنته الدول الاشتراكية في العالم الثالث، ورأينا بروزها في مصر خلال الستينات تحديدا، ولكن وزارات التخطيط ابتعدت تماما عن احتياج الناس وباتت تلبي احتياجات الحكومات، ولذلك أسهمت بخططها في تضييق درجات الثقة والمصداقية بين المواطن والأجهزة الإدارية، وهذا الذي جعل الناس لا يأخذون الخطط الخمسية أو السنوية التي تصدر من وزارات التخطيط (بل ولا حتى الوزارات الشقيقة في الحكومة نفسها أحيانا) على محمل الجدية والجدارة. اليوم، أغلب الوزارات لا تخطط بالمعنى الشمولي الـMacro، ولكنها تهتم بالصغائر الـMicro، وفي حالات أكثر هي مجرد انفعالية ورد فعلية Reactionist، تتعامل برد فعل على المشكلة أو الأزمة، فيكون رد فعلها فيه فهلوة، وحذاقة زائدة، وتعتمد على الإنكار التام واتهام «الآخرين» و«الأعداء» بنشر «الشائعات والمغالطات والأكاذيب»، ثم تكون الموجة الثانية، وهي تعتمد على «تخفيف» وطأة الحدث لامتصاص الغضب أو السخط القيادي أو الشعبي، وتتلو ذلك سلسلة من الاجتماعات والتصريحات والخطوات الإدارية، حتى يصاب الناس بالملل ويؤجل الملف حتى كارثة جديدة. لا أحد يعلم حتى اليوم ما الحكمة من اختيار خمس سنوات كمعيار للخطط الخمسية (لماذا ليست هي بالخطط السبعية أو العشرية مثلا؟).

شركة نيسان اليابانية العملاقة لصناعة السيارات تضع خططها على مدى خمسين عاما، هناك جدل كبير على مدى نجاح قياس سنوات التخطيط، ولكن المعروف أن تصغير حجم الدولة كجهاز بيروقراطي، واستبداله برؤية ومشروع عامين، وترك التفاصيل للكفاءات المؤهلة بجدارة وليست المختارة، نتاج فوضى المحسوبيات وتسيب الثقة، سيكون ضمانة لإنجاح المشاريع الصغيرة والأهداف المتوسطة، وهي كلها قطع صغيرة تكون الصورة المبهرة المأمولة لأي كيان وطني ناجح. هذا النوع من التغير الإداري في فكر وثقافة المؤسسات الحكومية التي كانت دوما تعلق توجهات المستقبل على «الخطط» و«المشاريع» المنطلقة من وزارات التخطيط سيجعل إمكانية محاسبة المسؤولين التنفيذيين أفضل وأدق؛ لأن المسؤولية ستكون مباشرة من دون طرف آخر لا علاقة له بالتنفيذ ولا بسوء التنفيذ، الذي في حالة فشله ستعلق عليه المشكلة بالقول السهل «الفكرة والنظرية كانتا أصلا خطأ؛ لذلك جاء التطبيق خطأ». دور وزارات التخطيط، كما كان معروفا، انقرض وانتهى، وبات من المفروض استيعابه تماما داخل الوزارات نفسها، وتكون كل وزارة مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ لتطبق الرؤية الكبرى، على أن يكون الرقيب والمتابع المجالس البرلمانية الموجودة لتناقش الأداء وتقيمه، يصاحبها إعلام حذر موضوعي ومهني. هذا النوع من الحلول من الممكن أن يعيد بناء جسور الثقة بين المواطن والحكومات؛ فهو سيزيل طبقة رخوة ودسمة ومعطلة وعازلة بين الحكومة وبينه، لا تؤدي غرضا نافعا إلا المزيد من التعقيد والبيروقراطية والروتين المضني. كثير من دول العالم الثالث والأسواق الناشئة فيه أقدمت على إلغاء أدوار وزارات التخطيط؛ لإدراكها أن هذه لغة مضى زمانها وغير قابلة للإقناع.

ولكن يبدو أن حلم ابن صديقي ليكون سائق تاكسي بلندن أسهل من تحقيق الإصلاحات الإدارية الكبرى المأمول بها... ولكن الحلم جائز.

[email protected]