السعادة غير المتوقعة

TT

حدثني رجل أعمال ناجح عن بداياته المتعثرة، ويقول: إنني منذ أن أنهيت دراستي الجامعية ولا هدف ولا هم لي إلا أن أخوض في مجال التجارة، غير أن صعوبة البداية واشتداد المنافسة في السوق أحبطتني، ولم تترك لي مجالا في السوق للمزاحمة الشرسة.

وفي لحظة هي أشبه ما تكون باليأس، سألت نفسي: إذا كنت فاشلا في التجارة، لماذا لا أجرب نفسي في مجال الصناعة؟!، وعقدت العزم على الخوض في هذا المضمار الذي أعتبره السهم الأخير في حياتي العملية، (فيا إما صابت ويا إما خابت).

وفعلا عملت تخفيضا على كل بضائعي وبعتها دفعة واحدة، محققا بذلك خسارة لا تقل عن (50 في المائة) من سعرها الحقيقي، وقد ضحيت بذلك مضطرا لكي أحصل على السيولة النقدية اللازمة لشراء مصنع واستئجار أرض حكومية لتشييده عليها، وهذا ما حصل بعد جهد جهيد، وبدأ المصنع يعمل بعد ثلاثة أعوام، بعمالة أكثرها خارجي وبعضها وطني وكان على رأس الجميع مدير توسمت فيه الكفاءة، غير أن حساب الحقل لم ينطبق على البيدر، مثلما يقول إخواننا أهل لبنان.

فالمحصلة كانت (مش ولا بد)، وما ينتجه المصنع كان بالكاد يغطي المصاريف وأجور العمال، وبدأت الدنيا تضيق بعيني، وأحسست بأنني (خرجت من حفرة لكي أطيح في دحديرة).

لا أريد أن أطيل عليك، فقد تعقدت الأمور وبدأت المشكلات تطفو على السطح، وقدم المدير استقالته وقبلتها، وتوليت بنفسي الإشراف الفعلي على الإدارة الميدانية، غير أنني أعرف الأثر القائل (رحم الله امرءا عرف قدر نفسه)، فلست أنا بذلك الرجل الخبير في مجال الإدارة، وكدت أصاب بالخيبة والعجز، لولا أنني في أحد الأيام أخذت أشكو همي لصديق أثق به، فقال: لماذا لا تعطي للخباز خبزه حتى لو أكل نصفه؟!، قلت له: لا مانع ولكن أين هو؟!

وبعد أيام إذا به يتصل بي قائلا: لقد وجدت الخباز، قلت له: هاته، وحضر مع شاب تبدو على سيمائه ملامح التواضع، فسألته عن تاريخه ومؤهلاته وذكرها لي، واتفقت معه على تولي الإدارة، فقال لي قبل أن يوقع: اللي أوله نور آخره سلامة، أنا لي عدة شروط، سألته: ما هي؟!، قال: إنني أؤمن بالحوافز، فأنا لا أريد أن آكل نصف الخبز، ولكن آكل منه (10 في المائة) زيادة على راتبي، وهذا ينطبق بشكل آخر على العمال، فزيادة على رواتبهم تكون لكل واحد منهم نسبة في أرباح المصنع بناء على مجهوده. وافقته على شروطه، وبدأت عجلة العمل تدور.

وإذا بالعمال يتغيرون (180 درجة)، أصبحوا يعملون بجد واجتهاد حتى أكثر من الساعات المقررة لهم، بل إنهم كانوا يمدون يد المساعدة إلى الحمالين المكلفين بنقل البضائع، وأخذوا يقدمون اقتراحاتهم بتحسين وسائل الإنتاج وتسيير العمل والقضاء على التراخي والكسل في المصنع.

وانتقلت خلال سنة واحدة من حال إلى حال، وكلما تزايدت الأرباح ازددت في تقديم الحوافز والمكافآت للعمال، سواء الأجانب منهم أو المواطنون، واليوم ليس هناك واحد منهم لا يملك أرضا أو منزلا لعائلته، ولم يهرب أو يختلق مشكلات أو يستقيل أحد منهم، بل إن الإجازات لا يأخذونها إلا إذا أرغمتهم عليها.

والحمد لله، لقد ربحت الشيء الكثير وهم كذلك ربحوا.

وأهم من ذلك كله أننا جميعا سعداء، فالمصنع ليس لي أنا وحدي ولكنه للجميع.

[email protected]