ذهب يستكمل سكينته

TT

لم أكن أنوي الكتابة عن الدكتور أحمد ماهر. والسبب أنني شعرت بأنني أحبه أكثر مما أعرفه، وأقدره أكثر بكثير مما تسمح معرفتي به بالكتابة عنه. لكن مقال الدكتور محمد بن عيسى في رثائه، السبت 2 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، واستعادته لأمسيات التمشي على شاطئ أصيلة، حرك بي شجونا كثيرا. فغالبا ما كنت الثالث في نزهات المساء. وكان سي محمد يقول لي دائما: «في أي بلد عربي يمكن أن تشاهد وزيري خارجية يمشيان بين الناس من دون حراسة؟».

كان أحمد بهاء الدين، كلما جئت القاهرة يأخذني معه إلى منزل أحمد أو علي ماهر. وبدا لي وكأنه مدعو دائم. وفي منزل الدكتور أحمد كنت تقابل دائما وجوه مصر، ووجوه الأسرة الدبلوماسية في القاهرة. وعندما فقدنا بهاء، كان أحمد ماهر يتقدمنا دائما في ذكراه السنوية. وثمة شيء لم يتغير في أحمد ماهر، سفيرا أو وزيرا للخارجية أو مشاركا في مهرجان أصيلة الثقافي: وداعة الكبار وتواضع الكبار.

كنت تلقاه اليوم وكأنك تركته بالأمس. دائما يستكمل حديثا لم ينته. دائما حاملا جرة من طيب يسكب منها هنا وهناك. دائما مهموما ودائما متفائلا. دائما لا يجد عيبا في أحد ولا يأسا في أفق مسدود. كان مثل غمامة من الندى فوق مهرجان أصيلة. تواضعه الساحر يخفي سعدنة المتفرعنين الصغار القادمين إلى المؤتمر، لا ينقص رؤوسهم سوى تيجان ورقية، مثل تاج جان بيدل بوكاسا. كان المكان يفيض بمحبته وتواضعه ووقاره ومعرفته، فلا يعود سي محمد محرجا بوجود بعض الطواويس، الذين لا بد من وجودهم، كجزء من القضاء والقدر.

لكن حضور أحمد ماهر كان أيضا موجبا للمقارنة الإلزامية بين العراقة وحداثة النعمة. بين الأصالة وعوابر الزمن. بين تواضع أبناء الباشاوات ونط الجنادب. لم أطرح عليه سؤالا إلا وتمهل قبل أن يجيب. وإذا أجاب اعتذر، لأنه ليس واثقا تماما. وكانت تساعده على هالة التواضع الملازمة، بحة صوته، وبساطة مظهره، ونزع كل تكلف.

جعل محمد بن عيسى من قرية فقيرة على الأطلسي، حديقة ثقافية متجددة. ارتقى بمدينته وارتقت به. لم يضعها على خريطة المغرب المترامية على خريطة الأمة، حيث يبدو اسمها مكتوبا بأضواء ملونة. وطوال سنوات، كان أحمد ماهر أحد معالم المهرجان، إذا أردت أن تعرف أين هي الندوة التالية، أو أين هو معرض الرسم المقبل؟ ما عليك سوى أن تتبعه. كانت له دائما حماسة من يحضر المهرجان للمرة الأولى. وفي المساء كان يقول: «أنا متعب قليلا. سوف أترككما لأرتاح». فلتكن راحتك في مثل سكينتك، أيها السيد.