الرافض مرفوض

TT

يتساءل كثير من أصدقائي عن سر غيابي عن سائر هذه النشاطات والمؤتمرات والمأكلات التي يعج بها عالمنا. حتى في شهر رمضان الكريم، أقامت سائر السفارات والمنظمات العربية، بل حتى الأجنبية والمسيحية، حفلات إفطار دون أن أتسلم دعوة واحدة لأي منها. سألني صديقي صلاح نيازي، لم نرك في مهرجان أصيلة قط؟ ولاحظ آخر اختفائي من مؤتمرات البابطين للشعر العربي. حتى الفلسطينيون الذين أضعت لقضيتهم سنوات من حياتي لم يعودوا يشركونني في اجتماعاتهم.

الحقيقة الواضحة التي لم يلتفت إليها أصحابي، هي أنني شخص رافض، وعوقبت على رفضي بالرفض، فأصبحت الكاتب المرفوض. كان الأخ عبد العزيز البابطين يدعوني لمهرجاناته الشعرية العالمية، ويظهر أنه قرأ أو سمع ما كتبته في الشعر والشعراء، يوم قلت إن ممارسة الشعر من صفات الشعوب المتخلفة. الشعوب المتطورة تعنى بالعلم والطب والفكر. وقلما أصاحب أحدا من الشعراء لأنني أجدهم غارقين في الأنانية والذاتية والكذب. يظهر أن الأخ البابطين سمع ذلك فتوقف عن استضافتي.

كان المغرب يدعوني لمهرجانات أصيلة، حتى كلفوني بإلقاء كلمة؛ فتكلمت ودعوت لتبسيط قواعد اللغة بحيث تصبح طيعة وفي متناول الناس فلا يهجرها العلماء والأطباء والمهندسون ويلجأون للغات الأجنبية، ولا تثور عليها الأقليات الإثنية فتطالب باستقلالها. ضج المستمعون بالضحك والتصفيق وأنا أروي النكات عن النحو العربي كعادتي. غاب عن ذهني حينئذ أن المغرب يواجه أزمة في تعميم اللغة العربية وتغليبها على الفرانكفونية والنزعة الأمازيغية. وهكذا توقفوا عن دعوتي لأصيلة، ومن يلومهم؟

أقام المنتدى العراقي قبل سنوات حفلا لتكريمي، فألقيت كلمة شكر وصفت فيها حركة التحرر الوطني والمطالبة بالاستقلال بأنها حركة الحرامية. فالأفندية من أبناء الطبقة المتوسطة عاشوا مرفهين في العهد العثماني من السرقات والرشى. جاء الإنجليز فمنعوا ذلك، بل طالبوهم بدفع ضرائب، فثاروا عليهم. حصلوا على الاستقلال، فعادوا إلى سابق شأنهم من الفساد، كما نرى اليوم. قلت كل ذلك فصفق الحاضرون، ولكن المنتدى توقف عن دعوتي للمشاركة في أي ندوة. شاعت بينهم سمعتي كداعية لعودة الاستعمار لا تنبغي دعوته لأي مأكلة.

دعتني دار الإسلام لتكريمي أيضا، وطالبوني بإلقاء كلمة عن الفكاهة العراقية. يقوم نصف الفكاهة على النكات الجنسية في كل العالم. ما إن تورطت بذكر واحدة منها حتى رأيت النسوة، وكلهن محجبات ومنتقبات جلسن في آخر القاعة، يبارحن الدار. وشاعت بين القوم فكرة أن القشطيني رجل بذيء لا تصح دعوته لأي جلسة محترمة.

وبعد سنوات من التعاون مع الفلسطينيين والكتابة المتواصلة عن قضيتهم، قدر لي الاحتكاك بالبعض منهم، فلمست مدى الفساد المنتشر بينهم، وتجاهلهم لمعاناة شعبهم. فتعال يا سيدي وامنع خالد القشطيني من التنديد بذلك. وبدأت القطيعة، ووداعا يا فلسطين!

دعوْني للمشاركة في مؤتمر الإصلاح العربي بمصر، بلد الفتاوى، فقلت سأصدق الدعوة للإصلاح عندما يبدأون بتدريس نظرية التطور في المدارس. وكانت آخر دعوة لي للمشاركة. فهل تعجب ألا يدعوني أحد لمأكلة؟