مدينة «كل شيء بريال»!

TT

المنطقة التاريخية بمدينة جدة تحتضر، بيوت العز تحولت إلى خرائب، و«مراكز» وجهاء المدينة تحولت إلى متاجر «كل شيء بريال»، حتى «الرواشن» عرائس الفرح المطلة على الدروب تفتقت أحشاؤها، وتنافرت أضلاعها، فبدت كأسنان نخرها السوس في فم شمطاء بلغت أرذل العمر، واختفت رائحة «المستكا» التي كانت تفوح من «مناور» البيوت، فأزكمت مستنقعات المدينة الأنوف، وأمناء جدة السابقون واللاحقون يتحدثون عن تطوير المنطقة التاريخية، وأهمية السياحة!

جدة القديمة التي احتضنت حكايات التاريخ، ورغد الحياة، وشموخ الأيام، وتعالت على شواطئها المواويل والصواري والأشرعة تبدو اليوم حزينة في انتظار حدوث الذي لم يحدث، وبيوت التجار في «قابل» و«الندى» و«الخاسكية» تطل في انكسار كعزيز قوم ذل.

بالأمس كنت أهم بزيارة موقع تاريخي في المدينة، احتلت بلدية المنطقة واجهته، وأنفقت الأمانة على ترميمه ملايين الريالات، ولكن حال بيني وبين الوصول إلى الموقع مستنقع اخضرّ ماؤه، وفسدت رائحته، كل ذلك على بعد خطوات من مبنى البلدية، و«على عينك يا تاجر!»، والناس تمضي في الجوار مكممة أنوفها.

اليوم المدينة، والتاريخ، وذاكرة الناس، في مأزق، ولست أدري هل علينا أن نخرج التاريخ من هنا، ونعمل «delete» على الذاكرة، ونترك المدينة تذوب في «موسم الهجرة إلى الشمال»، ويصبح حالنا كحال مؤلف «مائة عام من العزلة»، حينما عاد إلى قريته بعد سنوات من الغربة، فوجدها خرائب، فنظر إليها متحسرا، وقال: «آه.. كل ما تبقى اليوم أطلال تحث على الكتابة الغاضبة».

من حسرتي على جدة العتيقة رحت أخرج الشعارات العتيقة التي رفعها المتسابقون لعضوية مجلس المدينة البلدي في موسم الانتخابات ذات يوم بعيد، تأملتها طويلا، واخترت أخيرا أن أبللها وأشرب ماءها، فلعل ذلك يساعد على أن نغفر لهم خطيئة السكوت، ولحس الوعود.

من ألمي على «جدة التاريخية» رحت أتغنى بقصيدة عتيقة لشاعرها الجميل حمزة شحاتة:

النهى بين شاطئيك غريق

والهوى فيك حالم ما يفيق

ورؤى الحب في رحابك شتى

يستفز الأسير منها الطليق

آه ليت شحاتة اليوم بيننا فيرى، كيف استفاق الهوى، ورحلت رؤى الحب، ولم يتبق سوى ذكريات.

[email protected]