ثقوب في مرجعية المالكي الأميركية/الإيرانية

TT

الصداقة شيء. والسياسة شيء آخر. الرئيس نجاد أعد لصديقه الزائر الرئيس بشار مفاجأة سياسية قلبت الحسابات السورية. فقد نجح نجاد، أخيرا، في إجبار «أسيره» مقتدى الصدر - قيل إنه يطلب العلم في قم - على الانضمام إلى المسعى الإيراني، لتشكيل حكومة خصمه اللدود نوري المالكي!

كانت سورية تنتظر الصدر في دمشق، في إطار مسعى سوري لتشكيل الحكومة العراقية، ربما برئاسة إياد علاوي زائر العاصمة السورية. فرحة نجاد في تركيب البيادق على رقعة الشطرنج العراقية كانت متسرعة. لم تكتمل. ففي مقابل انحياز الصدر الإجباري للمالكي، أعلن عمار الحكيم شريك الصدر في «الائتلاف الوطني العراقي» استعداده للانحياز إلى علاوي المنافس الرئيسي للمالكي.

التحالفات والائتلافات العراقية أشبه بكثبان الرمال الهشة. يهب الطوز (عاصفة رملية). فيفكك الكثبان هنا. ليعقدها ويشكلها هناك. بات المالكي، في هذا الطوز، الكثيب الأكثر حظا في اجتذاب واستقطاب الكثبان المستوزرة. غير أن تشكيل الحكومة قد يستغرق أسابيع، وربما أشهرا وأطوازا أخرى، تضاف إلى ثمانية شهور والعراق بلا حكومة، منذ طوز الانتخابات التشريعية في مارس (آذار) الماضي.

لكن لماذا هذا الشوق المفاجئ الذي استبد ببشار للقاء نجاد في طهران، ولم يمض على لقائهما في دمشق سوى 19 يوما؟ ومن المفترض أن يلتقيا مرة ثالثة خلال أيام، بمناسبة زيارة نجاد للبنان المقررة في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. نجاد قادم على رأس وفد ضخم، يضم قادة من الحرس الثوري لتفتيش جاهزية «حزب الله» لا لقصف العدو على الحدود، وإنما لقصف محكمة الحريري الدولية وأنصارها.

فتش عن المرأة! لم يكن الرئيس السوري مرتاحا لنتائج لقاء الوزيرة هيلاري مع وزيره وليد المعلم في نيويورك. فقد حذرته، بعصبية علنية، من «خربطة» سورية للبنان والعراق! وكأن البلدين ينعمان بالهدوء وراحة البال. ولعل هيلاري كانت تقصد عدم عرقلة سورية تشكيل حكومة عراقية برئاسة المالكي المحظوظ بدعم أميركي/إيراني.

كان الرد السوري سريعا على هفوات العصبية النسائية. بددت صحيفة مقربة من بشار الصمت السوري. قصفت الصحيفة محكمة الحريري الدولية، في تأييد واضح لـ«حزب الله». جاء القصف الإعلامي، وكأنه تمهيد لزيارة بشار لنجاد. نكاية وتحديا لتحذيرات إدارة أوباما.

أظن أن الاسترضاء السوري لإيران، بحملة إعلامية على محكمة الحريري، أصاب بشروخ الزجاج الرقيق للسلام السعودي/السوري في لبنان. كانت السعودية قد احتفظت بصمت رسمي، على حملة «حزب الله» على المحكمة. وحاولت هدهدة الجدل الصاخب بين الحريري الابن المطالب بالعدالة. وحسن الحزب المطالب بإلغاء المحكمة.

كان الأمل اللبناني كبيرا، في أن تقنع سورية الرئيس نجاد بتأجيل زيارته للبنان، كي لا تبدو الزيارة تحديا للتهدئة السورية/السعودية. وكي لا تأتي دعما وإسنادا لتهديدات «حزب الله» واستفزازا يؤجج التوتر بين الحزب والشارع الشعبي السني الذي قال إنه سيحتج على الزيارة بتظاهرات سلمية. غير أن عودة التوتر إلى العلاقة السورية/الأميركية، هي التي فرضت حرص دمشق على تأكيد عمق علاقتها مع طهران، نكاية بكيد نسوان إدارة أوباما للسياسة السورية.

الزيارة السورية المفاجئة بددت القلق الإيراني، من احتمال بدء محادثات بشأن الانسحاب من الجولان، بوساطة أميركية، قد تؤدي إلى فتور علاقة سورية بإيران. لا أدري، هنا، كيف توفق إيران بين قبولها لمفاوضات سورية/إسرائيلية، ورفضها لمفاوضات فلسطينية/إسرائيلية؟! أعود إلى «الأفراح» الأميركية بالجهود الإيرانية لتشكيل حكومة المالكي، لأقول إن أي وفاق إيراني/أميركي، في المنطقة، سيكون على حساب المصلحة العربية. المالكي الذي امتلك مرجعية أميركية/إيرانية، لا يلقى إجماعا عراقيا. ولا هوى عربيا. فكيف تسعى أميركا لتوفير مرجعية عربية له؟! وهي في الوقت ذاته، غير راضية على إسناده ودعمه بمقتدى الصدر الذي حاربته قوات المالكي مع القوات الأميركية، وقتلت الألوف من أتباعه بين عامي 2004 و2007.

يكاد مقتدى الصدر يكون المنتسب الوحيد لسلالة مرجعية شيعية ذات أصول عربية صافية في العراق. غير أن الرجل لا يتمتع بنضج سياسي كاف لمنعه من اللجوء إلى إيران. ربما كان في إمكانه اللجوء إلى بلد عربي يوفر له الحركة السياسية، وقيادة جمهوره الشعبي الواسع في العراق. لكن قيل إن «حزب الله» منعه من اللجوء إلى لبنان.

الطريف هنا أن عمار الحكيم وارث تنظيم «المجلس الإسلامي الأعلى» عن والده وعمه الراحلين، يُظهر كفاءة سياسية تفوق تلك لدى الصدر. ويعارض عمار بشدة توزير المالكي مرة أخرى، على الرغم من أن المجلس يعتبر محسوبا على إيران.

أمضي في تقديم هذه الانطباعات السريعة إلى القارئ العربي. فأقول إن إياد علاوي صاحب أكبر ائتلاف نيابي (91 نائبا) يترأس ائتلاف «العراقية» الذي يضم ساسة من مختلف المذاهب والأعراق. كان علاوي البعثي السابق الذي قتلت زوجته الأولى في محاولة اغتيال عملاء صدام له في منزله في لندن، أحرى بالعهدة إليه بتشكيل الحكومة، ومنحه الفرصة لتشكيل ائتلاف حكومي أكبر.

مشكلة علاوي رئيس الوزراء الأسبق أن ائتلافه الواسع غير متماسك تماما. فهو يضم 63 تنظيما وشخصيات قوية، كطارق الهاشمي وصالح المطلك. لا شك أن انحياز مقتدى الصدر إلى المالكي كان مفاجأة وصدمة مؤلمة لعلاوي.

مشكلة علاوي أيضا غدر أطراف سنية بائتلافه: الحزب الإسلامي (الإخواني) الذي تعاون مع الاحتلال، خاض الانتخابات منافسا لمرشحي (العراقية). بعض تنظيمات الصحوة السنية انضمت إلى ائتلاف المالكي (دولة القانون)، أو إلى تكتل جواد البولاني وزير الداخلية، أو حتى إلى الائتلاف الوطني (الصدر والحكيم).

المالكي لغز كبير. يتكيف مع التحولات. عندما سقط رهان العراقيين على الطائفية والفيدرالية، تحول المالكي إلى الرهان على الهوية الوطنية. راهن الأميركيون عليه. فعقد معهم معاهدة أمنية. وربما يضمن لهم السماح بإقامة قواعد عسكرية في العراق، بعد الانسحاب التام المقرر في العام المقبل.

المالكي مع النظام الرئاسي. كان العراقيون يخشون من أن تتقمصه شخصية صدام وأسلوبه في الحكم. المالكي ضد «الديمقراطية التوافقية» التي يعزو إليها فشل حكومته في توفير الخدمات (الأمن. الكهرباء. المياه. جمع القمامة. مكافحة البطالة). والحجة أن المحاصصة الطائفية فرضت عليه وزراء غير أكفاء، لم يخترهم هو شخصيا.

ثقوب كبيرة في مرجعية المالكي الأميركية/الإيرانية. حلفه مع عدوه (مقتدى الصدر) لا يضمن له أغلبية في مجلس النواب. المالكي بحاجة إلى الكتلة الكردية التي ناصبها العداء، في الخلاف على كركوك، وعلى عقود وامتيازات النفط. يبقى أن أقول إن المالكي ثقب عربي كبير: إن اقترب العرب من نظامه، منحوه شرعية قومية لا يرغبونها له. ولا يجدونها فيه. إن ابتعدوا عنه، اشتدت الوصاية الإيرانية عليه.