كلنا ضيوف

TT

الجدل الأخير في مصر، الذي أخذ شكلا قبيحا وظهر فجأة بدون مقدمات حول من هو ضيف على الآخر، يُظهر أنه لا يوجد أحد في المنطقة محصن ضد فيروس الطائفية الذي يشبه السرطان، لو لم تجرِ محاصرته فإنه يتمكن من الجسم ويدمره، فهناك قناعة في المنطقة بأن المجتمع المصري لديه حصانة بحكم الانصهار التاريخي والدولة المركزية على مدار مئات القرون التي خلقت حالة تجانس اجتماعي بين المكونين الدينيين الرئيسيين للمجتمع، المسلمين والمسيحيين. وجاء هذا الجدل على خلفية مشهد عام في المنطقة لا يبشر بخير، ففيروس الطائفية يطل بوجهه القبيح في أكثر من بؤرة ليهدد التجانس الاجتماعي، وهياكل الدول، وفي أحيان كثيرة يكون المشهد الطائفي غطاء لأهداف سياسية محلية وإقليمية وحتى دولية لا علاقة لها بمصالح المجتمع المعني وسلامته ورفاهيته.

وبالنظر إلى بؤر التوتر والاحتقان التي تهدد المنطقة من العراق إلى لبنان والصومال والسودان واليمن، فهناك شيعة وسنة، وحوثيون و«قاعدة» وجهاديون متطرفون، وهناك مسيحيون ومسلمون، والنتيجة واحدة: تفكك الدول وتقسيمها أو تحولها إلى دول فاشلة منهارة مثل الحالة الصومالية التي، واقعيا، تعد أكثر من دولة، وورثت تنظيمات متطرفة فيها أمراء الحرب الذين عاشوا على التهريب والفوضى والقرصنة. ولا يبدو أن هناك أي منطق في استحضار خلافات تاريخية أو عقائدية، أو عرقية من قرون عديدة لتصبح مجال جدل وخلاف اليوم، إلا لو كان هناك فيروس جنون أصاب العقول وجعلها لا ترى أملا في المستقبل الذي يتسابق فيه العالم العاقل على تكنولوجيات ومعادن وأسواق جديدة، بينما المنطقة تعيش في صراعات الماضي، وتصبح الرجل المريض في العالم الذي ينظر إليه الجميع بتعجب.

المبدأ العام الذي يسير عليه العالم اليوم هو المواطنة، أي إن الجميع لهم حقوق وواجبات متساوية ما داموا يحملون جنسية هذا الوطن أيا يكن انتماؤهم أو أصولهم، فهذا هو الذي يحفظ سلامة المجتمع، ولا يستطيع أي أحد أن يقول إن مجتمعا معينا لديه أصول صافية من أي عرق كان، فسمة المجتمعات اليوم هي التعددية، وبالنظر إلى كثير من المجتمعات الأوروبية التي يقودها زعماء معروف أن أصولهم مهاجرة من عرقيات أخرى، نجد أن لا أحد يشكك في ولائهم، أو يبحث في جذور العائلة، فالمهم هو السياسات وماذا يقدم لمجتمعه.

وعودة إلى موضوع الجدل الأخير في مصر، فإنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه ضيف على أحد، والحكم على ذلك هو التاريخ، فالحضارة الفرعونية عمرها الثابت يفوق زمنيا التاريخ اللاحق، وقد مرت عليها مكونات كثيرة على مدار القرون انصهرت في مجتمعها من البطالمة إلى الرومان، والمسيحية، ثم دخولها الإسلام بكل تفاصيل الحضارة الإسلامية ومراحلها مع الدولتين الأموية والعباسية، والفاطميين والمماليك والأيوبيين، ثم دخول العثمانيين، وحكم أسرة محمد علي، لتختلط الأصول وتنصهر في المجتمع بعد ذلك مع الهجرات التي صاحبت كل فترة، في عالم لم يكن يعرف حواجز انتقال سوى الحواجز الجغرافية، ويشكل كل ذلك الخلفية التاريخية لشخصيته اليوم. وليس هناك أي حكمة أو منطق في جعل عقائد الناس مادة للجدل العلني والخلاف أو تحويل قضايا فردية إلى موضوع لمظاهرات واحتجاجات يجري فيها تبادل السباب، إلا لو كان المقصود هو الخراب. المطلوب هو سيادة الحكمة ومحاصرة دعاة الفتنة في مهدهم، فيكفي ما هو موجود من أزمات. المطلوب هو ارتفاع أصوات الأغلبية الصامتة لتقف ضد دعاة الفتنة والخراب.