السياسة.. «بالمفرق»!

TT

في عالم السياسة هناك توجهات «عامة» تحكم مناهج الدول وتصبح بالتالي أسلوبا واضحا لها، وهو ما يمكن أن يطلق عليه مسمى سياسة «الجملة» أو الـ wholesale، ولكن يبدو الآن أن توجها أو منهجا جديدا سيطغى، وهو سياسة التجزئة أو المفرق الـ Retail، وهي أن يتم التعامل مع السياسة بالقطعة الواحدة.

الولايات المتحدة الأميركية تقف موقفا صلدا وواضحا ضد إيران كسياسة عامة، وتتهمها بأنها داعمة للإرهاب ومثيرة للقلق والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، ولكنها في الوقت نفسه تبارك اختيار «إيران» (الطائفي أولا) في شخص نوري المالكي للعودة من جديد إلى ترؤس مجلس الوزراء العراقي، وذلك على حساب مبدأ أصيل في السياسة الخارجية الأميركية، وهو دعم الخيار الديمقراطي للشعوب، وذلك حين التذكر بأن نوري المالكي قد «خسر» الانتخابات ضد إياد علاوي! وهذا النوع من التوجهات المتناقضة يرسل برسائل محيرة ومريبة إلى العالم عن مدى أهمية المبادئ وجدارتها في سياسات الدول في مقابل المكاسب والمصالح الآنية. وقد كنت أتناقش في هذه المسألة مع صديق عاد لتوه من مؤتمر كبير معني بالاقتصاد والمال في دولة أفريقية، وكانوا يتغنون فيه بقوانين وأنظمة وتشريعات مكافحة الفساد ومحاربته ومعاقبة من يتسبب في ذلك، وذكر لي عن إعجاب الناس بالطرح المقدم حتى صعد أحد المتحدثين، وهو محافظ للبنك المركزي في إحدى الدول الأفريقية، يترأس مجلس إدارة إحدى كبريات شركات الخدمات العامة (وهي في الوقت نفسه كبرى الشركات المقترضة محليا من البنوك!)، وكذلك عين شقيقه مديرا عاما تنفيذيا لأحد المصارف المحلية! ذلك كله طبعا مخالفة هائلة وصريحة لفكرة تضارب المصالح وانعدام لمبدأ الشفافية والمحاسبة بطبيعة الحال، ولكنه يجسد فكرة السياسة «بالمفرق» بامتياز، فشتان بين سياسة «الجملة» هنا، التي يجب أن تطبق على الجميع بعدل ومساواة من دون تفرقة أو تمييز، وبين «الكوسة» أو في الحالات الأكثر خطورة عندما تكون «الكوسة بالبشاميل!»، بمعنى أن يكون الكيل بمكيالين فجا ووقحا من دون مراعاة للمبادئ ولا النظم ولا القوانين. «السياسة»، هي الأخرى، تحولت إلى بضاعة، وذلك بحسب السوق، سيروج لها وبحسب العرض والطلب سيتم تسعيرها. فإذا كان المطلوب في فترة ما هو (أوكازيون) حقوق الإنسان سيتم توجيه الخطاب السياسي لهذا الاتجاه، وإذا كان المطلوب هو الديمقراطية ستتم إعادة الصياغة لتوافق هذا الطرح.

سياسة «التجزئة» التي اتخذتها أميركا بتأييدها لإيران باختيار المالكي هي استمرار واضح لتوجه «التصعيد» العام في المنطقة؛ فالمالكي يأتي كقرار لتكريس الطائفية و«دعم» التدخل الإقليمي في الشؤون الداخلية على حساب الاختيار الشعبي والخط الوطني العام واللاطائفي، وكذلك هناك «تصعيد» من قبل إسرائيل بالرضوخ للرعونة الإسرائيلية باستمرارها في سياساتها الاستيطانية التي تمارسها بلا اكتراث، متحدية فكرة السلام والقرارات الدولية، وكذلك «السماح» بالتصعيد من قبل أحزاب لها مصالح مريبة ضد قرارات دولية صادرة ومحاولتها الواضحة بالانقلاب على نظام الدولة والتهديد بالسلاح والشارع.. ذلك كله مشاهد حزينة ومتفرقة، ولكنها واحدة لسياسات «التجزئة» والتعامل بالقطعة بعيدا عن المبدأ العام. ملف العراق الدقيق والحرج تسلمه الرجل الأضعف في الإدارة الأميركية الحالية، وأقصد نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، وهو الذي «بارك» دعم نوري المالكي مجددا من دون الإلمام بالأضرار المتوقعة التي ستصيب العراق والمنطقة من جراء هذه المباركة والدعم الخاطئ. غزو أميركا للعراق كان خطأ بينا باعتراف الكثير من الحكماء والعقلاء والشرفاء في أميركا، ولكن دعم «الطائفية» والتوغل الإقليمي فيه سيكونان خطيئة مشابهة لإدارة لا يزال الكثيرون يعتقدون فيها العقل والحكمة بالمقارنة مع من كان قبلها.

[email protected]