انفجار العالم العربي

TT

إن اختيار مثل هذا العنوان المثير، للحديث عن الوضع العربي الراهن، لا يدخل ضمن خانة التهويل والتضخيم، بل هو في الحقيقة توصيف دقيق لما يعتمل في الجسم العربي من صراعات وانفجارات، بعضها بات محسوسا وظاهرا للعيان، وبعضها الآخر تتراكم عوامل انبعاثه من تحت الرماد في أي وقت وحين. يكفي أن يتأمل المرء ما يجري في مواقع كثيرة من العالم العربي، سواء كان ذلك على تخومه وأطرافه، أو حتى في مناطق القلب منه، حتى يدرك هذه الحقيقة جيدا.

الصومال في حالة انهيار كامل تقريبا، حيث لا تكاد تسيطر حكومة الشيخ أحمد شريف سوى على القصر الرئاسي، وبضعة أحياء في مقديشو وليس أكثر، في وقت تتمدد فيه حركة التمرد المسلح، التي تقودها مجموعات الشباب المرتبطة بـ«القاعدة» في سائر أرجاء الصومال.

اليمن الذي يقف في موقع جغرافي بالغ الأهمية والحساسية، ينفتح على الخليج العربي، شمالا وشرقا، ويطل جنوبا على بحر العرب، وغربا على البحر الأحمر، فضلا عن إشرافه على مضيق باب المندب الاستراتيجي، يتخبط هو الآخر في ركام من الأزمات، لا قبل له على الخروج منها، اللهم إلا بمعجزة خارقة لقوانين الاجتماع السياسي. يخوض هذا البلد حروبا مفتوحة على ثلاث جبهات مترابطة، معركة أولى مع الحوثيين في جبال صعدة وما حولها، وأخرى مع جماعات «القاعدة» الهوجاء شمالا وجنوبا، وثالثة مع الحراك الجنوبي الذي يدفع في اتجاه الانفصال ونقض عرى الوحدة التي قامت سنة 94.

السودان الذي يمثل حلقة وصل رئيسية بين العالم العربي والامتداد الأفريقي، ويمتلك أكبر مساحة في أفريقيا والعالم العربي، بات اليوم في عداد اليقين أنه سيفقد الجنوب إلى غير رجعة في غفلة وتجاهل من الجوار العربي. هذا دون أن نتحدث عن أزمة دارفور المفتوحة منذ سنة 2003، وما زالت تتأرجح ما بين الحرب والسلم.

العراق ومنذ وقوعه فريسة للاحتلال الأميركي سنة 2003، ما زال عاجزا عن تشكيل حكومة، إلى حد كتابة هذه السطور، وبعد ما يقرب من ستة أشهر من الانتخابات، وهو يتخبط في حالة من الفوضى العارمة وما يشبه الحروب الأهلية الخفية والصامتة، في ظل تدخلات دولية وإقليمية، لا حصر لها.

لبنان يترنح وضعه ما بين استقرار هش وصدام طائفي محتمل، ولولا التنسيق السعودي - السوري المشترك لانزلق البلد مجددا في أتون التحارب الأهلي. تضاف إلى هذا الكم من الأزمات الظاهرة، سلسلة أخرى من المعارك «والتفجيرات الجزئية» التي لا حد لها، سواء داخل الأقطار العربية أو فيما بينها، من قبيل معركة الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر، التي شلت كل منطقة المغرب العربي واستنزفت إمكانيات البلدين لعقود متتالية. في مواجهة كل ذلك يقف العالم العربي فاقدا الرؤية ومشلول الإرادة، وكأن ما يجري فيه وما حوله يخص قارة أخرى من العالم لا صلة له بها.

لا شك أن مثل هذه الأزمات تعبر في وجه من وجوهها عن فشل الدول العربية في امتصاص التوترات والتوقي من الأزمات، جنبا إلى جنب مع الإخفاق الاقتصادي وتآكل شرعية النخب الرسمية، ولكن ما هو أهم وأخطر من كل ذلك هو فشل العرب الجماعي في صياغة الحد الأدنى من مفهوم أمن مشترك. نحن نرى أمام أعيننا اليوم نماذج حية ومجسدة لانهيار فكرة الأمن الحدودي للدولة العربية، أي اتجاه كل دولة عربية إلى ترتيب وضعها بصورة منفردة، وبمعزل عن المحيط العربي الأوسع، وفي ظل غياب الحد الأدنى من مفهوم عربي مشترك للأمن والمصالح العامة. من المؤكد أن حالة التفسخ السياسي العربي، وليدة سياقات بعيدة المدى، تعود إلى ولادة دولة ما «بعد الحماية»، وما أعقبها من فشل تنموي وسياسي ظل يكبر مثل كرة الثلج، ولكن المؤكد أيضا أن «العشرية الأخيرة»، شهدت تسارعا في وتيرة الانهيارات العربية أكثر من أي وقت مضى. ففي غمرة الاندفاعات العسكرية للمحافظين الجدد نحو تغيير خرائط المنطقة، رغبا ورهبا، التي تم تدشينها بأفغانستان، ثم أردفت في العراق سنة 2003، اتجه كل بلد عربي إلى تأمين وضعه وحماية رأسه بصورة منفردة، تجنبا لنذر العواصف الهوجاء التي أطلقها بوش الابن وفريقه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). في مثل هذه الأجواء الصاخبة تبلورت رؤية ضيقة وهشة، تعتبر أمن الدولة «القومي» يقف على الخطوط الجغرافية التي تفصلها عن البلد المجاور لها وليس أكثر من ذلك. وهكذا يكفي أن يتم إبعاد شبح الأزمات والحروب بضعة كيلومترات على الجهة الأخرى من الحدود، أو إقامة عوازل عن موطن الأزمة، حتى تطمئن الدولة العربية بأنها باتت في مأمن من مخاطر المحيط المضطرب. بيد أنه ما أن يتم إطفاء بعض الحرائق هنا أو هناك حتى تعاود الظهور على نحو أو آخر، ربما أشد ضراوة مما كانت عليه. طبعا مثل هذه الرؤية لم تتشكل كنظرية مدروسة وواعية بقدر ما تبلورت في أجواء الإكراهات المتأتية من بنية العلاقات الدولية والمحيط الضاغط الذي يدفع في اتجاه الانكفاء على الداخل الضيق. بل الأنكى من ذلك أن بعض الدول العربية تنحو بعامل الوقت إلى تشكيل «العقيدة العسكرية» لجيوشها في مقابل دول عربية أخرى مجاورة أو قريبة منها.

الواضح هنا أن الدولة العربية تسير في خط معاكس تماما لاتجاه تطور التاريخ ونظام العلاقات الدولية. ففي الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو التكتلات السياسية والاقتصادية الجهوية والقارية الكبرى، ينزع العالم العربي نحو مزيد من التفكك والتذرر. ففي عصرنا الراهن المعولم لم يعد من الممكن الحديث عن أمن ضيق بالمعنى المحلي والجزئي، خاصة في ظل تراجع مفهوم السيادة، وتزايد تأثيرات الخارج بشكل غير مسبوق. هذا ما دفع الأوروبيين مثلا إلى الانتقال من مفهوم الهوية القومية إلى الهوية القارية، ومن مفهوم الأمن المحلي إلى الأمن الإقليمي وما هو أوسع من ذلك. ويقينا أن الدول العربية بحكم هشاشة وضعها وترابط المصالح والمخاطر فيما بينها، هي الأحرى والأولى بأن تفكر في أمنها واستقرارها, ضمن هذا الأفق الأوسع.

أنا أعرف أن الكثير ممن سيقولون إن هذه المقولات هي من مخلفات الحقبة القومية التي عفى عليها الزمن، وما شابه ذلك، بيد أن هذه مسألة تتعلق بالمصالح البراغماتية، وحياة الدولة العربية نفسها قبل أن نتحدث عن الاعتبارات الآيديولوجية والعقائدية، مثلما تتعلق بقوانين التدافع السياسي وبنية العلاقات الدولية بالغة التركيب.

من الوهم تصور أن ما يجري في السودان مثلا من انهيارات، سيظل شأنا سودانيا خالصا من دون أن تمتد شظاياه إلى الجوار العربي والأفريقي، فهذا البلد الذي يمتد على حدود 9 دول ما بين عربية وأفريقية، (تعادل كل حدود العالم العربي مجتمعة تقريبا) وتزيد مساحته على مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع، لا بد أن ينعكس وضعه خيرا أو شرا، صحة أو مرضا على المحيط الإقليمي من حوله. ما يجري في اليمن لا بد أن تمتد شظاياه إلى المحيط العربي الأوسع، كما أن هذا البلد يواجه أزمات أكبر من حجمه وقدرته على التحمل، ولا يمكن تصور خروجه من هذه المحنة الخانقة التي يتخبط فيها من دون جهد عربي أوسع، وخليجي منه على وجه الخصوص. وقس على ذلك مجمل الأزمات والملفات العربية الملتهبة من العراق إلى فلسطين إلى لبنان والصومال وغيرها.

بين يدي السفر الضخم، الذي دونه وزير الخارجية التركي داوود أوغلو، المترجم والصادر حديثا عن مركز الجزيرة للدراسات، الذي يعد حصيلة التراكم المعرفي والخبرة السياسية للرجل، حيث يتحدث هنا عما سماه العمق، أو بالأحرى الأعماق الاستراتيجية لتركيا التي تتراوح ما بين البلقان والقوقاز والشرق الأوسط وأوروبا وآسيا وغيرها. كما أن الرجل لم يتردد في الحمل بشدة على ما سماه انحباس النخبة «الأتاتوركية» خلف مفهوم الأمن الحدودي الضيق، ليؤسس رؤية استراتيجية ترى في شبكة المصالح التركية، تمتد من موريتانيا إلى جبال الأوراس. وفعلا هذه ليست مجرد نظرية مدونة في بطون الكتب، بل إن داوود أوغلو وزملاءه يعملون ليلا ونهارا على ترجمة هذه الرؤية على أرض الواقع في سائر الفضاء العثماني السابق وما بعده.

الحقيقة أنه بقدر ما يشعر المرء بالفخر بوجود رؤية كبيرة وعقل يقظ يدير دفة السياسة الخارجية في بلد مجاور وشريك لنا، بقدر ما يشعر بشيء من «الغيرة» الممزوجة بالألم عما آلت إليه أوضاعنا نحن العرب من تيه وضياع في ظل ضيق الأفق السياسي وغياب الخيال الاستراتيجي، نتيجة انكباب النخب السياسية عندنا على العاجل من الأمور دون الآجل منها، وعدم الذهاب بعيدا، عما يعتمل في السطح السياسي الخارجي.

بيد أن السؤال المطروح هنا، أنه إذا كانت أوضاعنا على هذا النحو فما العمل؟ وما الخيارات المتاحة أمامنا؟

طبعا لا توجد حلول معجزة في عالم السياسة عامة، وفي الرقعة العربية، على وجه الخصوص، المحاطة بكم هائل ومتلاحق من الإخفاقات والأزمات، بيد أن هناك خطوات مطلوب قطعها، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوضع العربي المأزوم. وأولى هذه الخطوات المطلوب قطعها هنا التخلي عن وهم الأمن المحلي، أي تصور أن أمن أي من الدول العربية يتم بمعزل عن الأخرى، ثم التحرك في اتجاه صياغة رؤية عربية مشتركة تضع على رأس أولوياتها، التخفيف من الأزمات وإطفاء الحرائق الملتهبة، ثم تمتين نسيج المصالح والروابط العربية. مثل هذا الأمر يفرض مسؤوليات خاصة على الدول العربية الكبرى، وفي مقدمة ذلك مصر والمملكة العربية السعودية وسورية لإعادة ترميم الوضع العربي وإدخال شيء من الانتظام في المجال السياسي العربي المفكك، ثم لسد الفراغ الإقليمي الحاصل، الذي باتت تلعب فيه قوى دولية وإقليمية كثيرة.

الحقيقة أن العالم العربي أمام خيارين، لا ثالث لهما: إما التمادي في مشروع انهيار جماعي، لا قدر الله، وإما المبادرة بمشروع إنقاذ عربي مشترك وهو ما نأمله.