الخطر القادم من إيران

TT

تعتمد إيران في تصدير ثورتها «الشيعية» في العالم على كافة المحاور «السياسية والتجارية والثقافية» وعبر إقامة مشاريع استثمارية وتنموية وإنشاء منظمات خيرية ودعوية ومؤسسات اجتماعية وإعلامية وغيرها من القنوات الفاعلة، استطاعت من خلالها تحقيق نفوذ واسع في بلدان كثيرة من العالم، وإقامة شبكة من المصالح الاستراتيجية معها.

وفي حال تعذر عليها الوصول إلى أهدافها من خلال هذه المحاور الشرعية «الهادئة» لجأت إلى خيار استراتيجي آخر وهو التهديد والوعيد والتلويح بالعمل العسكري لإجبار الخصم على الرضوخ لسياساتها التوسعية.

وإذا كانت إيران استطاعت أن تتوغل في جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز عن طريق التبادل التجاري بالدرجة الرئيسية، مستغلة قربها الجغرافي معها، وفراغها السياسي على أثر تفكك الاتحاد السوفياتي، وتمكنت من إنشاء منظومات اقتصادية قوية، كمنظمة تعاون دول بحر قزوين التي تضم فيها، بالإضافة إلى إيران (أذربيجان، تركمانستان، روسيا، كازاخستان)، فإنها أخذت تنفذ إلى الدول الأفريقية عن طريق نشر الكتب وفتح المدارس الدينية والمراكز والجمعيات الثقافية التي عادة ما تأخذ أسماء وعناوين طائفية، كمركز أهل البيت ومدرسة الإمام المهدي وجماعة الشيعة الاثني عشرية وغيرها.

أما في بلدان الشرق الأوسط، فإنها أكدت وجودها القوي فيها عن طريق حركات وأحزاب سياسية موالية لها ومجاميع إرهابية تعمل على فرض مشروعها التوسعي بالقوة، كما في العراق ولبنان والبحرين واليمن.

إزاء هذا الزخم الكبير من النشاط السياسي، الثقافي «التبشيري» المركز الذي لم يتوقف للحظة، حتى في زمن الحرب مع العراق، من جانب الملالي في طهران منذ توليهم الحكم عام 1979، عجزت معظم الدول الإسلامية «السنية» عن مجاراته، وظلت في حالة تشرذم وتغيب تام عن الأحداث التي تدور حولها، على الرغم من أن بعض الدول قد استشعرت الخطر وأرسلت إشارات تحذيرية من عواقبه الوخيمة ودعت إلى مجابهته والحد من انتشاره المطرد، كالمملكة العربية السعودية، فيما تأرجحت دول أخرى بين متفرج ومؤيد.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إن دولة مثل تركيا التي قامت بحماية «أهل السنة» لسنوات طويلة وواجهت الطغيان الإيراني بقوة وعزيمة لا تلين تحت مظلة الخلافة العثمانية وسلاطينها العظام الذين وقفوا بالمرصاد لأطماع الشاهات الصفوية التوسعية في تصدير مذهبهم الطائفي إلى خارج إيران، أصبحت اليوم تساير وتهادن سياسة إيران العدوانية في المنطقة، وتسوق لمشروعها النووي «السلمي!» وتدعو الغرب إلى التعامل معه كأمر واقع، من أجل الحصول على مكاسب آنية ضيقة.

وبينما تضع الدول الغربية والآسيوية عقوبات وعوائق كثيرة وكبيرة أمام طموحات إيران النووية العدوانية وتمنع شركاتها التجارية والاستثمارية من التعامل معها وتتكبد من جرائها خسائر فادحة تقدر بمليارات الدولارات، نجد أن دولا خليجية لا تنفك تقيم علاقات أكثر من طبيعية معها وكأن شيئا لم يكن، لا عقوبات دولية ولا قرارات ملزمة من الأمم المتحدة واجبة التنفيذ.. وبحسب ما ذكره صالح صدقيان رئيس المركز العربي للدراسات الإيرانية لجريدة «الشرق الأوسط» الغراء، فإن ميزانية التبادل التجاري بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي لم تتأثر بعد ثلاث عقوبات أميركية فرضت على إيران منذ 2006، وكما تشير إحصاءات ومعلومات (أولية) إلى أن الإمارات العربية المتحدة تعتبر الشريك التجاري الأول لإيران، حيث توجد في أراضيها (6500) شركة إيرانية! وحجم تبادلها التجاري معها يصل إلى حدود 11 مليار دولار، مما أثار دهشة المراقبين بشدة، فبدل أن تقوم بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران بسبب احتلالها لجزرها الثلاث، قامت بتطوير علاقاتها التجارية معها بشكل لم يسبق له مثيل، وكذلك الحال مع سلطنة «عمان» التي يصل حجم تبادلها التجاري مع إيران إلى مليار دولار وما زالت إيران تجني ملايين الدولارات يوميا من عائدات الغاز الإيراني المتدفق إلى دولة البحرين، على الرغم من الدعوات المتكررة الصادرة من «الملالي» بضرورة ضمها إلى إيران باعتبارها المحافظة الرابعة عشرة، ولا يخفى على أحد العلاقات السياسية والتجارية القوية جدا التي تربط دولة قطر بإيران، فالزيارات المكوكية الحميمية قائمة بين الطرفين على قدم وساق.. وتبقى المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة من بين دول الخليج، بل من بين دول العالم الإسلامي، التي ليست لها علاقات استراتيجية من أي نوع مع إيران، بسبب مواقفها المبدئية وجرأتها على التصدي لأطماعها التوسعية في منطقة الخليج ومناطق أخرى من العالم الإسلامي.

لذا من الضروري الآن، أكثر من أي وقت آخر، أن تظهر على الساحة الإسلامية قوة «سنية» رادعة في إطار جبهة واحدة وموحدة، ذات هيكلية مؤسساتية منظمة بقيادة مباشرة من المملكة العربية السعودية لاعتبارات دينية وتاريخية معروفة، على غرار القوة التي كانت تشكلها الدولة العثمانية في وقوفها في وجه المارد الإيراني، الذي امتدت أذرعه إلى أماكن كانت حكرا خالصا على المذهب السني، كالسودان ومصر وبلدان أخرى مهمة في أفريقيا.

ومما لا شك فيه أن الإيرانيين أصبحوا اليوم قوة لا يستهان بهم دوليا، وذلك بفضل إصرارهم وتفانيهم في تصدير ثورتهم «البائسة» إلى العالم، وأصبح لديهم الآن وجود وقواعد وأنصار من الموالين «المتشيعين» في كل مكان.. بينما نحن لا نملك غير الانتظار عما تسفر عنه العقوبات التي فرضها عليهم المجتمع الدولي والنتائج التي يتمخض عنها الصراع الدائر بينهم وبين الغربيين.. وذلك أضعف الإيمان.

* كاتب كردي عراقي