كيف يتغير العالم أمام أعيننا؟

TT

تحدى كاتب الشؤون الخارجية في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية توماس فريدمان إدارة الرئيس باراك أوباما أن تدخل في منافسة مع الصين في مجالات الطاقة الجديدة - طاقة الرياح والشمس - ليس فقط لأن ذلك يحل معضلة تكلفة الطاقة بالنسبة لأميركا والدول الصناعية الأخرى، وإنما لأنها واحدة من المجالات التي تفتح عالما جديدا من التغيير والتقدم لا خطر على بال إنسان ولا جاء في ذهن بشر. فالقضية الأساسية في التغيير والتقدم والسبق تكون نتيجة عوامل كثيرة توجد في تربة الدولة أو الجماعة البشرية من أول التعليم وحتى درجة الحرية التي يتمتع بها الناس حتى يخترقوا حجبا كثيرة من مواجع أو موانع. وعندما بدأت الثورة الصناعية الأولى في إنجلترا من خلال اختراع الآلة البخارية، فإن القضية لم تكن الحصول على وسيلة تؤدي إلى سرعة السفن، أو حتى اختراع السكك الحديدية، وإنما كانت خلق طريقة جديدة في التفكير تؤدي إلى عشرات بل مئات من وسائل التغيير والتقدم الأخرى. ولم يختلف الأمر عندما بدأت الثورة الصناعية الثانية مع اختراع المحرك، الذي سرعان ما صنّع الزراعة محولا الفلاحين إلى عمال، وخرج بالإنسان إلى الفضاء مرتين: مرة داخل الغلاف الجوى، ومرة خارجه.

ومن الصعب قياس التأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحدثها هذه التغييرات، ولكن الثابت أنها تحدث وكفى، وفي وقت من الأوقات كانت سنغافورة مجرد جزيرة ماهرة في تجارة المخدرات وحتى الرقيق الأبيض، ولكن براعتها في صناعة السفن، وميناءها الشهير جعلاها أكثر الدول تنافسية في العالم، وانتهى بها الحال إلى أن تضع نهاية للفقر والفساد.

وللحق فإن القصة كانت دائما واحدة، حيث كانت المخترعات الجديدة تلقى مقاومة شديدة من أنصار الوضع القائم، وفي وقت من الأوقات خرج العمال لتحطيم الآلات، تماما كما رفضت طبقة الساموراي اليابانية استخدام البارود لأنه لم يكن هناك فيه شرف يذكر، ولا شجاعة يشار إليها، ولكن طبقة الساموراي كانت هي التي انتهت مع تحديث اليابان وبقيت الصناعات الجديدة. وفي النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي رفض مجلس إدارة شركة «أبل» مجموعة من المخترعات والتصميمات التي توصل إليها «ستيفن جوبز» مؤسس الشركة لأنها وجدت فيها كثيرا من الشطط، في وقت كانت فيه الشركة ناجحة للغاية حتى باتت مناطحة لشركة عملاقة مثل «آي بي إم»، ولا تحتاج للمغامرة. وكانت النتيجة هي سقوط «أبل» ونصيبها من السوق، بل واجتياح شركة أخرى كانت أكثر جسارة هي «مايكروسوفت» لكي تمتلك سوق المعلومات الجديد بزعامة فتى ذهبي آخر هو بيل جيتس. وربما كان ستيفن جوبز هو أول من أصبح بلا عمل بينما ثروته تزيد على مليارين من الدولارات وفي سن الثلاثين ولديه أفكار تساوي أكثر بكثير من ثقل صاحبها ذهبا وماسا عشرات المرات.

المسألة إذن لا تختلف كثيرا بين دولة وشركة، على الأقل الآن، وما تفعله الصين والهند في هذه المرحلة هو البحث عن كل المجالات الجديدة وتحقيق السبق فيها، وإذا كانت شركة «أبل» قد نجحت في اختراع تلك الآلة العجيبة المسماة «آي.باد»، وبثمن قدره 800 دولار، فإن الصين سوف تنتجه محسنا بثمن لا يزيد على مائة، أما الهند فيشاع أنها قد وصلت بالثمن إلى 30 دولارا فقط لا غير. القصة هنا لها جناحان: أولهما أن شركة «أبل» اقتنعت أخيرا قبل نهاية تسعينات القرن الماضي بأفكار ستيفن جوبز القائمة على المجسمات البصرية، وتكنولوجيات اللمس، والتي جربها بالفعل في شركات خاصة - نكست وبكسار - ثم أعاد زرعها في شركته الأم لكي تخرج بسلسلة من المنتجات من أول «الآي.باد» وحتى «الآي.فون»، وبينهما تركيبات متنوعة سوف تعيد تركيب طرق الاستهلاك والإنتاج في عالمنا وتضعنا أمام بوابة من الثورة التكنولوجية التي لم يطرق بابها أحد من قبل وفي الكيفية التي تغيرت بها طرق وسبل الحصول على المعلومات.

في صناعة الصحافة وحدها انهار الحاجز تماما بين ما هو مطبوع، وما هو في العالم الافتراضي، وعالم الأقمار الصناعية التلفزيوني، بل إن كلا منها لم يعد يعبر عن العالم الحقيقي الذي عرفناه. فالمطبعة وشبكات التوزيع وأشكال الإنتاج تكاد تكون كلها على وشك الانهيار، بينما تلهث كل المؤسسات وراء تغييرات لا بد من اللحاق بها من ناحية، ولكن الأصعب كيف يمكن أن تنجذب أجيال كاملة لم تعرف أبدا أكثر مما عرفته إلى ذلك الجديد. والمعضلة ليست موجودة فقط في العالم النامي، أو حتى بلادنا العربية، ولكن في شركة متقدمة مثل «نوكيا» التي وضعت فنلندا بين قائمة الدول العظمى تكنولوجيا حتى باتت من المؤسسين للمحطة الفضائية المأهولة الأولى في التاريخ الإنساني، فإنها رفضت ما قدمته لها معاملها البحثية عن تكنولوجيات اللمس، فإذا بها تتأخر عن كل منافسيها ويتراجع نصيبها حتى في أسواق التليفون المحمول التي كانت تقودها.

المسألة إذن أنه لم يعد من المستطاع الانتظار طويلا، أو حتى لفترة قصيرة، ومن يظن أن مشكلتنا الوحيدة مع إسرائيل أنها تقوم ببناء المستوطنات الاستعمارية فإنه يتجاهل ما تفعله إسرائيل في كل هذه المجالات التكنولوجية حتى بات لديها ما تعطيه لهذه الدولة أو تلك التي قد تدينها في قرار من قرارات الأمم المتحدة نهارا، ولكنها تبات معها في سرير التفوق العلمي ليلا. وبينما يجري ذلك على قدم وساق، فإن مشروعاتنا لا تزال قائمة على قدر تغيير الجامعة العربية إلى الاتحاد العربي بينما لا تزال بنية مجتمعاتنا على حالها، ولا توجد فكرة واحدة يشعر العالم تجاهها بالامتنان. وربما كان المثل الوحيد الذي نعرفه هو ما تحاول أبوظبي أن تقوم به من خلال مدينة «مصدر» التي تتخلص تماما من الكربون، وتعتمد على إعادة تدوير الطاقة الضوئية مرة أخرى.

ولكن مثل ذلك قليل على أمة عدد سكانها 350 مليونا من البشر، لا يوجد فيهم من يماثل «غوغل» أو يقترب من «الفيس بوك»، وليس المقصود هنا استهلاك كل هذه المنتجات فهي موجودة بكثرة حتى في دول عربية فقيرة، ولكن العقل الذي توصل إليها وجعلها جزءا من إدارة الحياة. وبصراحة فإن العقل العربي يحتاج إلى درجة عالية من التحرير والانطلاق حتى يكون متعلما بدلا من الجهل، وعلميا بدلا من الخرافة، ومنطقيا بدلا من السفسطة، ومدنيا بدلا من الشعوذة، ومستقبليا بدلا من الماضوية، وعالميا بدلا من المحلية. كيف يحدث ذلك والحال على ما هو عليه، فذلك ما يحتاج إدراك الحال وعزيمة الخروج عليه.