التوريث الكوري.. والإرث البرازيلي

TT

تركزت الأنظار والأضواء مؤخرا على بلدين يشهدان تحضيرات لانتقال السلطة بأسلوبين مختلفين وفي ظل تجربتين متباينتين. ففي البرازيل، تابع الناس هذا الأسبوع الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لاختيار خلف للرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي يعد أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ بلاده بفضل الإنجازات التي حققها، لكنه يبتعد عن الرئاسة مع نهاية ولايته الثانية، إذ يمنع الدستور الترشح لولاية ثالثة.

لم ينشغل الرئيس لولا، كما ينادونه، بتعديل الدستور لكي يبقى في المنصب مدى الحياة، بل انصرف لبناء بلده، فنجح في تحقيق نمو اقتصادي مذهل جعل البرازيل أحد أسرع الاقتصاديات نموا بنسبة نمو تقارن بالصين، وتجعلها تُصنَّف على أنها ثامن أكبر اقتصاد على مستوى العالم. وخلال فترتي رئاسته الناجحتين استطاع الرئيس لولا إعادة تصحيح مسار أكبر بلد في أميركا الجنوبية (مساحته 3.3 مليون ميل مربع وتعداد سكانه نحو 194 مليون نسمة)، بخفض التضخم والديون الخارجية وتشجيع الاستثمار والنمو الاقتصادي، محققا طفرة اقتصادية كبرى. لكنه في الوقت ذاته، حافظ على وعوده للناخبين بمساعدة الفقراء وتقليص الفجوة بين الميسورين والمعدَمين، برفع الحد الأدنى للأجور وتعديل نظام التقاعد وتنفيذ برامج إصلاحية أخرى. فالرئيس لولا ولد في بيئة فقيرة وترك الدراسة وهو في الرابعة عشرة من عمره ليشتغل عاملا بسيطا، ويشق طريقه ليصبح أحد قادة الحركة العمالية، ولم ينس نشأته وفقراء بلاده عندما انتقل إلى عالم السياسة ونجح في الفوز بالرئاسة مرتين متتاليتين.

يستعد لولا دا سيلفا لمغادرة الرئاسة في يناير (كانون الثاني) المقبل بعدما أصبحت البرازيل قوة اقتصادية صاعدة يُعتَدّ بها، وتحوز احتراما دوليا مكّنها من الفوز بالمنافسة على استضافة كأس العالم عام 2014 ودورة الألعاب الأولمبية كذلك في 2016. كما أن الرجل يترك إرثا من النجاح جعل أبرز المتنافسين في سباق انتخابات الرئاسة يتباريان في التأكيد على التزامهما بمواصلة خطه، رافعين شعار «الاستمرارية»، لا شعار «التغيير» الذي قاد باراك أوباما مثلا إلى الرئاسة. وبفضل هذا الإرث، فإن ديلما روسيف مرشحة حزب العمال التي يدعمها لولا دا سيلفا أصبحت الأوفر حظا في الفوز بنتيجة الانتخابات في دورتها الثانية التي ستجرى نهاية الشهر الحالي. فعلى الرغم من نجاحاته وشعبيته، فإن لولا دا سيلفا لم يسع لتغيير الدستور للبقاء في السلطة مثلما فعل هوغو شافيز في فنزويلا مثلا، كما أنه لم يفكر في توريث أي من أبنائه وهم خمسة، بل يترك السلطة قانعا بإرث من النجاح جعل عدة صحف ومجلات عالمية بارزة تختاره ضمن أكثر الشخصيات السياسية العالمية نفوذا، كما اختاره منتدى دافوس الاقتصادي في بداية العام الحالي كأبرز شخصية سياسية عالمية، ووصفه الرئيس الأميركي أوباما بأنه «أكثر السياسيين شعبية على ظهر الأرض».

التجربة الأخرى التي جذبت الأنظار في الأيام القليلة الماضية لأسباب مختلفة هي تجربة كوريا الشمالية، حيث تجري الترتيبات لعملية انتقال للسلطة وسط تعتيم شديد في بلد من مخلفات الشيوعية يفضل أن يتباهى بقدراته النووية والعسكرية لا بإنجازات اقتصادية أو سياسية. فالمعلومات القليلة التي تسربت من هذا البلد خلال انعقاد أول مؤتمر عام للحزب الشيوعي منذ أزيد من ثلاثين عاما، أشارت إلى خطوات تمهد لنقل السلطة من كيم جونغ إيل، «الزعيم الغالي»، كما يلقبونه هناك، إلى ابنه الأصغر كيم جونغ أون. فقد رقي الابن العشريني إلى رتبة جنرال في الجيش وعين نائبا لرئيس اللجنة العسكرية وأدخل إلى قيادة الحزب، في مؤتمر بدا أنه مرتَّب لاتخاذ هذه الإجراءات. وكان لافتا أن الأب يسعى إلى توريث ابنه من خلال إعطائه قبضة عسكرية لأنه لا إرث آخر يتركه له، في بلد شهد مجاعة قيل إنها أودت بحياة مليون شخص، ويعيش أوضاعا اقتصادية مزرية ونقصا مزمنا في المواد الغذائية وعزلة دولية.

والغريب أنه في هذه «الجمهورية» التي تتمسك بالشيوعية نظاما للحكم، وتهاجم أنظمة ناجحة ومستقرة حولها مثل كوريا الجنوبية واليابان، أصبحت الزعامة لا تتم حتى بالتدرج في هيئات وتنظيمات الحزب الأوحد. «فالزعيم الغالي» كيم جونغ إيل ورث الحكم خلفا لأبيه «الزعيم المحبوب» كيم إيل سونغ، وذلك بعد عملية مماثلة لما جرى الشهر الماضي في أروقة الحزب الحاكم. لكن كيم جونغ إيل ذهب خطوات أبعد من والده الراحل، فهو لم يكتف بترقية ابنه الأصغر كيم جونغ أون لإعداده لتولي الحكم، بل سعى لتمكين شقيقته التي رقيت إلى رتبة جنرال أيضا خلال مؤتمر الحزب الأخير، وهي متزوجة برجل نافذ في الحزب والدولة ويقال إنه يدير الكثير من الأمور اليومية.

شتان ما بين تجربتي كوريا الشمالية والبرازيل؛ ففي الأولى توريث بالقبضة العسكرية على ركام بلد يتمسك بالشيوعية ويتهاوى تحت وطأة الفقر والجوع، بينما في الثانية يتبارى السياسيون على التمسك بإرث وسياسات زعيم يغادر السلطة وفقا للدستور بعد تحقيق نجاحات باهرة لشعبه وبلده.