هرم من ورق البردي

TT

هو بنى أهرامه لسواه، سطرا سطرا وفقرة فقرة. هذه مئوية نجيب محفوظ، الرجل الذي دون روحية مصر.. جلس على ناصية وراح يتأمل المارة، كبارا وصغارا، يدقق في أفكارهم، يسألهم عن أحلامهم، يصغي إلى آلامهم وحكاياتهم، ويترفق بهمومهم وعذاباتهم، ويحضر أفراحهم.. ثم يشرب استكانة شاي ويجلس يدون. أجمل ما تضمنته السير التي كتبها نجيب محفوظ، سيرته، أو هي، على الأقل، الأنصع. ذهبت مصر يمينا وشمالا وبقي حيث هو.. هاجت وماجت وبقي في روعة هدوئه... تكاسلت وأغضت وظل يكتب ولا يغض.. تفيأ عمالقة الأدب المصري مظلات كثيرة.. أحزابا وحكومات وأنظمة ووجهاء وتيارات ومراحل، ولم يغير كرسيه في «الفيشاوي»، و«طقمه» الشبيه بزي موحد لا يتغير.. تحمس الكتّاب لـ«الوفد»، وهتفوا لعبد الناصر، ومالوا إلى اليسار، وأغراهم الهتاف واجتذبتهم الأضواء والألقاب والاطناب. وبقي في مكانه؛ كرسي عادي في الوزارة وكرسي عتيق في «الفيشاوي» وطاولة في البيت كتب عليها، كما لو أنه يكتب على ورق البردي، تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والنفسي.

يولد العمالقة في زمن خاص بهم. جاء عمالقة مصر صفا واحدا: طه حسين والعقاد وجمال حمدان وأحمد حسن الزيات وأحمد التابعي ومصطفى محمود وأحمد بهاء الدين وفؤاد زكريا وموسى سلامة ومحمود تيمور، وتخطاهم عبر الحدود نجيب محفوظ، لكنه جاورهم وجاوروه.. أصغى إلى من يقدمونه وأصغى الذين أصغر منه إليه. جيل أفنى حياته في التفكير والتحبير.. أهرامات عالية من الكتب والعطاءات والإضاءات، حتى صارت لهم أحجام الهرم الفكري. أضاءوا الدروب أكثر مما أضاءت مصابيح القاهرة. والمحزن أنهم أخذوا زمنهم معهم.. فقراء وبسطاء مضوا. ومن كان منهم على شيء من الثروة تركها للفقراء. اختلفوا في الرؤية وفي الفكر ولم يختلفوا في الخلق.. كانوا يدعون «الحرفشة» وهم عمالقة ومجتهدون.. وجد وكد وورق بردي وحبر من أعماق النيل.

لكن نجيب محفوظ تميز عن المتميزين، ليس أبدا لأنه نال «نوبل»؛ فلا يقلل من طه حسين والعقاد أنهما لم ينالا جائزة كبرى. «نوبل» الأكبر هي الناس الذين أحبوا نجيب محفوظ وتماهوا معه وعاشوا على حكاياته وحكايات القاهرة وروايات مصر عقودا لا تنتهي ونيلا روائيا لم يتوقف إلا بطعنة من مصلح عجلات أرسل كي يقتل روح مصر الحقيقية.. خسيس أراد أن يقتل نبل مصر ورمز أهلها ورمز البسطاء الذين يحبون ويسعون ويشقون ويطربون لسيد درويش. هذه مئوية نجيب محفوظ، الهرم الذي من ورق البردي وحبر النيل.