صفيح وذهب

TT

ما مقياس الزعامات؟ لا أعرف إن كان لدى الأمم المتحدة معايير لتقييم الحكام، على غرار تقييم المدن والدول: طوكيو، المدينة الأكثر غلاء، كندا البلد الأكثر هناء، الكونغو الأكثر وحشية وهمجية واغتصابات! لدي مقياس واحد: مدى ما يحققه الحاكم من أجل شعبه، ومدى حرصه على التفويض والأمانة التي أعطيت له؛ لم يسرقها، لم ينهبها، ولم ينكل برقاب الناس وكرامتهم البشرية.

قبل أيام اعترض قارئ كريم لأنني كتبت عن اليونان: ما لنا ولليونان؟ ماذا يأخذك إلى اليونان؟ هل من قلة المواضيع والقضايا في عالمنا العربي؟ عفوا، لكن قضايا الناس واحدة غالبا.. عذابات الأمم واحدة ومتشابهة مهما تفاوتت، كذلك منجزاتها. فأنا ضد أن يجدد الرؤساء لأنفسهم، لكنني شعرت يوم الأحد الماضي بنوع من الخيبة لأن الدستور لا يسمح لـ«لولا» بالبقاء رئيسا للبرازيل. هذا رجل كان ميكانيكيا في كاراج يعمل في التنك وأصبح رئيسا من ذهب.. هذا رئيس انتقل في عهده 30 مليون برازيلي من حالة الفقر إلى فئة الطبقة المتوسطة. 30 مليون رجل وطفل وامرأة، تركوا خلفهم البيوت التي لا سقوف لها ولا كهرباء فيها ولا مياه شفة ولا منتفعات صحية، إلى بيوت فيها كل شيء. وأطفال هذه البيوت خرجوا من الشوارع إلى المدارس.

أعطى هذا الرجل صورة أخرى لليسار في أميركا اللاتينية، فبينما يلقي هوغو شافيز الخطب ويدمر الاقتصاد، بلغت البرازيل مع «لولا»، الصبي ماسح الأحذية، ازدهارا لم تعرفه من قبل.. أعطى الفقراء وعدا قطع به عهدا.. لم يكذب عليهم ولم يركب على أكتافهم.. لم ينس يوما أنه فقد أصبعه في مصنع للنحاس، هذا الرجل الذي سوف يصبح رئيسا من ذهب وماس.. هذا الطفل الذي جاء من قريته مع أمه إلى الـ«ريو دو جانيرو» في شاحنة مكشوفة. كم استغرقت الرحلة؟ 13 يوما في شاحنة مكشوفة في حر الشمس وغزارة المطر.

كان يحكم البرازيل جنرال بعد آخر، مثلها مثل أي «جمهورية موز». وقرر «لولا» أن يناضل ضد الديكتاتورية العسكرية السائدة في القارة. وبينما يقبض المقدم شافيز على السلطة ويعدل القانون للبقاء إلى الأبد، مشى «لولا» في اليوم الأخير لولايته. هذا المصلح الاقتصادي لم يأت من هارفارد، مثل رئيس المكسيك أو رئيس التشيلي أو رئيسة الأرجنتين، فهو لم يتعلم القراءة إلا في العاشرة من عمره ولم يبق في المدرسة بعد الصف الرابع ابتدائي، ولكن معه تحولت شبه القارة البرازيلية إلى دولة لم تدخل «كتاب غينيس»، وإنما كتاب السعادة: 30 مليون إنسان يودعون الفقر والصفيح في 8 سنوات.