المثل الصالح

TT

ما زال هذا السؤال يتردد: لماذا عجزت الأرحام العربية عن ولادة مخلوق مثل مانديلا وغاندي؟ لا بد للجواب أن نفكر فيما جمع بينهما وأعطاهما هذه الميزة الكاريزماتية؟ العنصر الأول هو إعطاء القدوة، المثل الصالح في التضحية. قضى مانديلا ثلاثين سنة في سجن انفرادي على جزيرة نائية لمجرد أنه ظل يرفض عرض الحكومة لإطلاق سراحه لقاء كلمة واحدة يقولها ضد العنف. نحن نعرف أنه رجل لاعنفي، ولكنه رفض أن يساعد السلطة في إدانة ما آمن به أصحابه. قدوة لا يملك العالم غير أن ينحني احتراما لها ويهرع الجميع للانضواء تحت رايتها.

أمثلة القدوة الصالحة لغاندي لا تحصى. سمعنا الكثير عن حملات إضرابه عن الطعام، ولكن مثلين آخرين يلفتان نظري. عندما أقام قريته الاشتراكية على مبادئ اللاعنف، ومن كل حسب قدرته لكل حسب حاجته، وزع المهمات على أصحابه. لم تكن هناك أي مراحيض أو حمامات. على الجميع أن يجلسوا على تنكات بدائية ويقضوا حاجتهم فيها. بقيت مهمة من يحمل هذه التنكات المليئة بالغائط والبول، ويلقي بمحتوياتها بعيدا؟ التفت لزوجته الأرستقراطية من آل نهرو، وقال أنت تقومين بذلك! سألوها بعد موته فقالت، غفرت له كل ما فرضه عليّ من معاناة وجهود، ولكن هذه المهمة التي ألقى بها عليّ لا أستطيع أن أغفرها له. كان غاندي قد قرر الامتناع عن الجنس. قال من يرد خدمة شعبه فليس له أن يشغل نفسه بخدمة زوجته في الفراش أيضا. امتنع عن مواقعة حرمه، ولكن خطرت له خاطرة. قال ربما ستعتقد ويعتقد الآخرون أنني كففت عنها لأنها كبرت وفقدت جاذبيتها. نادى على سكرتيرته الإنجليزية الأرستقراطية، الفتاة الرشيقة الحسناء التي نذرت نفسها لخدمته. طلب منها أن تقضي الليل معه في الفراش عارية. ليلة بعد ليلة، اضطجع المهاتما عاريا بجانب هذه الحسناء العارية دون أن يمسها.

أنعجب أن تتوقف الأعمال في لندن ليحتشد أهلها في الشوارع، أهلها الذين قضى حياته يندد بهم وبحكمهم، احتفالا بوصوله للتفاوض على طردهم من الهند ليغرقوا مركبته بالأوراد وأكاليل النصر؟

من تفرعات القدوة ما يسمى بالقيادة من الأمام. المعتاد الآن أن يجلس القائد في مكتبه أو مخبئه ويوجه المعركة الجارية أمامه. بيد أن من لمعت أسماؤهم في عصرنا هذا كانوا ممن قادوا المعركة من الأمام. هكذا لمع اسم روميل وموشي ديان. اعتادا على ركب الدبابة الأولى، يفتحان درعها ويطلان بجسمهما ليراقبا الميدان ويقودا الضرب.

القيادة من الأمام قدوة، كم أصبحنا في حاجة لها.

الطريف في كل هذه الأمثلة، مانديلا وغاندي والملك عبد العزيز بن سعود رحمه الله، وماو تسي تونغ ولينين وعبد المحسن السعدون في العراق، وتشرشل في بريطانيا، أنهم جميعا تحدروا من عوائل أرستقراطية نبيلة، لا يعانون من مركب نقص ولا عينهم جوعانة، ولا تعوزهم الثقة بأنفسهم وبمكانتهم وحقهم وواجبهم في القيادة.