البرقع والجمهورية والإسلام

TT

يترقب الفرنسيون، في غضون الأسابيع المقبلة، صدور القانون الذي يحظر ارتداء البرقع في الأماكن العمومية في فرنسا. فبعد مصادقة الجمعية العمومية على المشروع، ثم إقراره من قبل مجلس الشيوخ بعد ذلك ينتظر الفرنسيون الرأي النهائي الذي سيصدره المجلس الدستوري، أي الهيئة العليا التي تبت في دستورية القوانين المصادق عيها في البرلمان أو عدم دستوريتها. تلك آلية معتادة في الممارسة الغربية عامة، غير أن آليات غيرها تعمل، في الحياة السياسية الفرنسية، بموازاتها، أي في استقلال عنها. تتجلى تلك الآليات في العمل الذي تقوم به الصحافة من جانب ومؤسسات المجتمع المدني من جانب آخر. جوهر الديمقراطية، كما يفهمها الفرنسيون ويدافعون عنها، يكمن في طرح كافة الموضوعات التي تهم الحياة العامة على طاولة الحوار. الحوار، وإمكانه – خاصة - هو المؤشر الفعلي على وجود الديمقراطية، مثلما أن غيابه أو تعثره، برهان على ضعفها أو انعدامها بالجملة. يحب الفرنسيون أن يذكروا بعضهم البعض أن لفظ الجمهورية، في أصله اللاتيني يعني «الشأن العام» و«الشيء العام». الجمهورية، في المعنى الفرنسي، فضاء رحب للحوار وتبادل الرأي والمجاهرة بالاختلاف مع الحق فيه ولكنها تعني كذلك تذويب الفوارق بين الأشخاص، فالجميع، من حيث المبدأ، سواسية لأنهم «مواطنون». وكما أن المواطنة تستوجب الاشتراك في الحياة العامة فإنها تقوم على تقديس الحياة الشخصية والضن بالحرية الفردية التي تنطوي عليها. يرتاب الفرنسي من التقنينات الجديدة ويطالب بتوضيحات واحتياطات عديدة قبل التصديق عليها ويرى في الصحافة حصنا يلتجئ إليه في الدفاع عن الحرية متى توافر فيها شرط النزاهة بطبيعة الأمر.

متى استحضرنا هذه المعطيات فنحن ندرك المغزى من تخصيص كل تلك الندوات الكثيرة والحوارات المتنوعة لقضية «البرقع» أو، بالأحرى، للدعوة إلى منعه في الأماكن العمومية. تابعنا عددا غير قليل من تلك الحوارات التي لم تكن تخلو من المتعة والإفادة عن المجتمع الفرنسي في مرحلة تتسم بالهوس بالحديث عن الهوية والتساؤل، وهي التي نريد الوقوف عندها.

الملاحظة الأولى هي أن مشروع منع التلفع بالبرقع في الأماكن العمومية في فرنسا كان عند الفرنسيين مناسبة للرجوع إلى الموضوع الأثير لديهم، موضوع الحرية ومحاولات الاعتراض عليها وعلى الحق في ممارستها كاملة. كان التساؤل، في أكثر من لقاء حواري، عن التسوية في المنع بين التلفع بالبرقع وبين تنقل المرأة شبه عارية. وتبارى آخرون في إظهار التناقض بين البرقع، واقتضاء الحجب الكامل للشخص فلا يعرف، وبين المواطنة حيث إنها تنقل في الفضاء المشترك مع الحرص على التواصل والكشف عن الشخصية الطبيعية الفعلية. في حين أن البرقع يمنع من ذلك. والحق أن الحوار «على الطريقة الفرنسية» كان يخفي شيئا آخر لا يكاد يجاهر به سوى لوبن وشيعته من «الجبهة الشعبية» وهو القول إن البرقع يعني شيئا واحدا مرفوضا بطبيعة الأمر هو الغزو الإسلامي للهوية الفرنسية.

الملاحظة الثانية هي أن الدفاع عن المنع لم يكن مما انبرت له الأغلبية الحاكمة وحدها بل إنه حظي بتأييد ضمني تارة وبتأييد علني صريح أخرى. كان التأييد ضمنيا عندما كانت المعارضة تتحدث، من حيث هي كذلك، أي من حيث إنها لا تريد إضاعة فرصة تسنح لها في توجيه النقد للسلطة التنفيذية، وأصبح التأييد صريحا لا مواربة فيه عندما تعلق الأمر بالتصويت على المشروع في الجمعية العمومية. الحق أن تدخلات النواب في البرلمان الفرنسي قد أبانت، على اختلاف المشارب فيها، عن صرامة تامة في وجوب منع البرقع في الأمكنة العمومية، ولربما وجب الحديث عن إجماع تام على الربط بين المنع وبين قيم «الجمهورية».

الملاحظة الثالثة هي أن جانبا من الذين شاركوا في الحوارات التلفزيونية (في مختلف القنوات) من الفرنسيين المسلمين كانوا يساندون مشروع منع البرقع مساندة تامة. كانوا يحتجون، باسم الإسلام، بشيئين. الأول أن البرقع، من حيث هو حجب كامل للمرأة فلا تعرف البتة، لا يمت إلى الشرع بصلة إذ الحجاب الشرعي شيء غير ذلك. والشيء الثاني هو أن الالتزام بالقيم التي تمثلها «الجمهورية» لا يتعارض البتة مع الإسلام.

تجدر الإشارة أيضا إلى أن مناقشة مشروع منع البرقع كان يجري في الوقت الذي عرفت فيه فرنسا حوارا وطنيا دعت إليه الحكومة الفرنسية موضوعه الهوية الفرنسية وآفاق المستقبل. يعني الموضوع، في عبارة أخرى، من الشخص الذي يصح اعتباره منذ اليوم فرنسيا؟ هل يمكن الحديث عن تواز بين القضيتين المطروحتين على بساط الدرس؟ يبدو الأمر، للوهلة الأولى، كذلك خاصة متى أخذنا بعين الاعتبار اعتراض المعارضة الفرنسية على موضوع الندوة التي دعت إليها الحكومة الفرنسية اعتراضا شديدا. غير أننا متى أدركنا الارتباط القائم في الوعي الفرنسي بين «الهوية الفرنسية» من جهة والهجرة، من جهة أخرى، فنحن نتبين نقاط تقاطع كثيرة بين مناقشة مشروع قانون منع التلفع بالبرقع وبين الهوية. في الحديث الفرنسي عن الهجرة والاندماج في المجتمع الفرنسي مسكوت عنه هو: الإسلام. القصد بالتنادي في الهوية والهجرة وصورة الجمهورية مستقبلا هو الإسلام. السؤال المسكوت عنه في الخطاب الفرنسي اليوم هو التالي: أي إسلام يمكن لفرنسا أن ترتضيه للمواطن الفرنسي الذي يعتنق الديانة الإسلامية؟ جوهر القضية في قضية البرقع هو إذن مستقبل الجمهورية.

يلزمنا من أجل إدراك عميق لهذه المسألة أن نتذكر معطى إحصائيا بسيطا وحقيقة اجتماعية. أما المعطى الأول فهو أن تعداد المسلمين في فرنسا حاليا، مع غياب معطيات دقيقة (ما دام الدين يرجع إلى الحياة الخاصة، فهو مما لا يسأل عنه)، يتراوح بين 8 و10 في المائة من سكان فرنسا مثلما أن هذا العدد مرشح لأن يصبح ضعف ذلك خلال الثلاثين سنة المقبلة، في مقابل تراجع في الخصوبة عند باقي الفرنسيين. وأما الحقيقة الاجتماعية فهي أن الإسلام يمثل الديانة الثانية في فرنسا وفي باقي دول أوروبا الغربية. الأمران معا يستوجبان وقفة تأملية.