.. وعادوا بأوبرا عايدة لنعود ونذكّر

TT

مثل الحمى الموسمية، تعود أخبار تلك التي يصرون على تسميتها أوبرا «عايدة»، وهي في حقيقتها أوبرا «آييدا» غير العربية وغير المصرية وغير الفرعونية؛ فهي الجاسوسة عدوة مصر بنت أبيها ملك إثيوبيا القادم على رأس جيش لقتال مصر، فلا هي بنتنا ولا جدتنا ولا نعرفها ولا علاقة لها بأهراماتنا ولا بأمجادنا ولا ملابسنا الفرعونية، التي نوه بها الخبر الذي وزعته دار الأوبرا المصرية مؤخرا بما مفاده: إنها العرض التاريخي الذي يعود بعد ثماني سنوات في الهواء الطلق بين الأهرامات، في جو محمّل بعبق التاريخ المصري الفرعوني، على حد تعبير مخرج العرض الدكتور عبد المنعم كامل، رئيس دار الأوبرا المصرية، في بيانه الصحافي، وإن الأوبرا تقدمه لمدة أربعة أيام مساء 4 و5 و6 و10 من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي بالتزامن مع احتفالات مصر بنصر أكتوبر! (ما شاء الله!)، وتقام العروض على مسرح قامت الأوبرا ببنائه خصيصا للمناسبة على مساحة 1600 متر مربع في ساحة الأهرامات بمدرجات مشاهدة تتسع لأربعة آلاف مشاهد، واعتبر الدكتور عبد المنعم كامل، مخرج العرض ومدير الأوبرا، أن أوبرا عايدة «تعد إحدى العلامات الفنية المصرية أمام العالم»، (هكذا ومؤلف الحكاية الفرنسي أجستو مارييت والموسيقي فيردي، وقائد أوركسترا العرض المزمع إقامته هو المايسترو الإيطالي مارشيللو موتاديللي، وكورال أكابيلا بقيادة ألدو مانياتو ومايا جيفينيريا!).

إنني - والله - عاجزة عن معرفة سر غرام مسؤولي الثقافة في مصر بأوبرا «آييدا»، التي تمجد قيم الخيانة والنذالة والخسة رغم شرحنا لمضمونها الكثير من المرات ودعوتنا لمقاطعتها، خضوعا لكرامة الشعب المصري واحتراما لمشاعره، إذ كيف يمكن التغافل عن أوبرا تقوم أساسا على خلق التعاطف مع قائد مصري يقع في حب ابنة ملك أجنبي من الأعداء ويسرب من خلالها أسرار جيشه، في خيانة واضحة لبلاده ويصر عليها حتى لحظة موته بلا ندم؟

دعوني أنعش ذاكرتكم وأحكي لكم بكل أمانة محتوى هذه الأوبرا، التي تم تقديمها لأول مرة على خشبة مبنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة 1871/12/24.

آييدا بنت ملك إثيوبيا، وحكايتها تبدأ بوقوعها في أسر المصريين الذين كانوا، في تلك المرحلة التاريخية، في حالة عداء وحرب مستمرة مع الإثيوبيين، تأخذها ابنة فرعون مصر إمنريس في خدمتها بين عبيدها. يقع الجندي المصري الشاب راداميس في غرام آييدا، كيف؟ ولماذا؟ لا نعرف، وتبادله آييدا الحب في الوقت الذي نعرف فيه حب إمنريس، ابنة فرعون، له. يقوم الكهنة بتكليف راداميس قيادة جيش الدفاع عن الأراضي المصرية، التي تم الاعتداء عليها من قبل الإثيوبيين. تغني له ابنة فرعون المحبِّة «عد منتصرا»، وتعرف آييدا أن والدها، ملك إثيوبيا، قادم على رأس الجيش الذي سيواجهه حبيبها راداميس فتغلِّب حبها لبلادها وأبيها، على حبها لـراداميس وتكرر أغنية «عد منتصرا»، وفي نيتها نصر والدها ملك إثيوبيا، ونصرة بلادها التي تشتاق إليها. تكتشف ابنة فرعون علاقة الحب بين خادمتها آييدا وحبيبها راداميس، ومثل كل العاشقين تدب الغيرة في قلبها وتناصب غريمتها آييدا العداء، ولكن ليس لدرجة الإيذاء. حين يعود راداميس محققا النصر لمصر، يقرر فرعون مصر إكرامه بتزويجه ابنته، لكن راداميس قلبه متعلق بآييدا التي تتعرف على والدها، ملك إثيوبيا، بين الأسرى الذين جلبهم راداميس حبيبها. يطلب ملك إثيوبيا الأسير من ابنته آييدا عدم الإعلان عن حقيقته الملكية، ويؤكد لها أن المعركة مع المصريين لم تنته وأن حشودا إثيوبية مستعدة للتحرك، ويحثها على الهرب معه بعد أن تعرف من القائد المصري خط سير القوات المصرية. تخضع آييدا لمطلب والدها وتنجح في استدراج حبيبها، إلى فخ الإدلاء بالسر العسكري، ويتم تقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة - طبعا! ويحكم عليه الكهنة بالدفن حيا حتى الموت. يأسف راداميس حين يعرف أن آييدا هربت مع والدها ملك الإثيوبيين من دون أن يراها ويودعها - (لاحظ منتهى الخسة والنذالة من قائد يفضل غرامه على حب البلاد التي مجدته وحمّلته الأمانة) - تتضرع ابنة فرعون إلى راداميس ليتزوجها، لأنها تحبه وهي كفيلة بإنقاذ حياته، لكنه يؤكد أن الموت عنده أفضل من خيانة آييدا. ويهبط القائد الخائن الخسيس إلى قبو الموت، وإذا به يجد آييدا تنتظره لتموت معه، بعد مقتل أبيها الذي كان ينوي، إذا نجح في الهرب، إعادة الاعتداء على مصر في معركة جديدة. وتنتهي الأوبرا بلقاء العاشقين مرحبين بالموت معا، بينما تكون ابنة فرعون فوق القبر تبكي الحبيب بلا طائل، ونجد النهاية الدرامية تمجد القائد المصري الخائن وتوحده مع ابنة الأعداء آييدا، (فهل هذه هي القيمة المناسبة لتتزامن مع الاحتفالات بنصر أكتوبر؟!).

أن يفتقد الموسيقار فيردي الإيطالي، مؤلف الأوبرا، الحساسية تجاه مشاعر المصريين، وأن يقدمها للخديو فهذا مفهوم، لأن فيردي لا تفرق معه إهانة المصريين لصالح أعدائهم، كما أن الخديو إسماعيل لم يكن يفهم الحكاية تماما، كما يبدو، فهو جاهل ومغرم عمياني بالفن الخواجاتي، بالإضافة إلى أنه لم يشعر بالانتماء إلى التراث المصري القديم المليء بجو الفراعنة والكهان والمعابد؛ لكن يبقى السؤال: هل تفحّص وزير الثقافة فاروق حسني دلالات القصة التي تدور حولها هذه الأوبرا التي يتحمس لها ويصر عليها ويسميها -ويا للعجب! - «عايدة الهرم»؟ هل استوعب مخرج العرض جُمل الغناء والموسيقى المصاحبة وهي تنعى إلى المشاهدين مصرع العاشقين الخائنين لمصر لينفطر من أجلهما القلب؟ هل هذا جهل أم استهبال أم استهانة بتدفق السموم الثقافية التي تجعلنا نصفق لقاتلينا؟ كيف بكل هذا الحماس يصر هؤلاء الناس على هذا العدوان الثقافي، المتمثل في أوبرا تمجد قيم الخيانة والنذالة والخسة وتقدمها لتتزامن مع احتفالات البلاد بانتصار أكتوبر 1973؟