سباق بين التسلح والتهدئة في لبنان

TT

المعركة تشتد في لبنان وتقسو. زلزال مذكرات التوقيف التي أصدرتها سورية في حق 33 شخصا بينهم شخصيات لبنانية عسكرية، ونيابية، وقضائية، وإعلامية، مجرد حلقة في مسلسل الزلازل الآتية على البلد. المؤشرات على الأرض خطيرة، والتصريحات عامرة. عضو المكتب السياسي لتيار المستقبل مصطفى علوش هدد علنا بالتسلح في غمرة الكلام عن عمليات شراء سلاح بالجملة في عدد من المناطق اللبنانية، وقال صراحة: «إذا كان في لبنان حزب واحد يحق له التسلح، فبالطبع باقي الأحزاب ستقوم بتسليح نفسها». بعض العارفين بخفايا الأمور يؤكدون أن تسلح الأحزاب الخائفة من تطور الأوضاع بدأ بشكل جدي، علما بأن السلاح موجود في حوزة الجميع لكن ما يجري الآن هو تعزيز له وتأهب لمواجهة الأسوأ. وضع يذكر بما حدث أثناء أحداث 7 أيار واجتياح بيروت وما تبعها من معارك طويلة ودموية في طرابلس بين الموالاة والمعارضة. حزب الله وحلفاؤه في لبنان وخارجه لن يتراجعوا أو يهادنوا؛ بل على العكس، يتبعون سياسة هجومية وراغبون في استكمالها حتى النهاية. جميل السيد الذي بات يخبرنا بما سيأتي به الغد قبل أن تطل بشائره، يبلغ تهديده حدا سورياليًا حين يقول: «رأس عملية شهود الزور يدار من عند رئيس الحكومة سعد الحريري شخصيا بأمواله وكل شيء، وفي التحقيق قد يقول رئيس فرع المعلومات وسام الحسن أو المدعي العام سعيد ميرزا إنه قام (بفبركة) شهود الزور تلبية لرغبة الحريري، عندها قد يصبح مشمولا بمذكرات التوقيف». تهديد مباشر وغير مسبوق لرئيس وزراء لبنان بوضعه وراء القضبان ومحاكمته بتهمة التآمر لتضليل التحقيق في مقتل والده.

يتهكم أحد سياسيي «14 آذار» ويقول: «هل نفهم أنهم يتهمون سعد الحريري بقتل والده؟ هذه مسخرة». قد تكون مسخرة أو أكثر قليلا، لكن المعركة إلى تصعيد، والتسلح إلى مزيد، كما يؤكد من يعرفون الساحات القتالية جيدا. فالخلاف بين من كانوا يدعون في السابق، موالاة ومعارضة، هو على موضوع جوهري يصعب أن يتهاون في موقفه منه أي من الطرفين. حزب الله يعتبر أن رأسه مطلوب، والأداة هي المحكمة الدولية. وهو لن يسمح للقرار الظني الذي سيصدر عنها بإنهائه كحزب مقاوم وسيستخدم كل أسلحته لإلغاء المحكمة. أما «تيار المستقبل» فيعتبر أن هذه المحكمة، هي آخر ما تبقى له من أوراق ولن يسمح بإسقاطها أبدا من يده.

النائب مروان حمادة الذي طالته المذكرات الغيابية السورية شخصيا اعتبر أنها تساوي صفرا، أما عند جميل السيد الذي حركها، فقيمتها القانونية مدروسة 100%. وما بين الصفر والمائة تتأرجح الاحتمالات المفتوحة على مصراعيها. حزب الله يتبع استراتيجية التصعيد التدريجي، والكشف عن المفاجآت تبعا للمناسبات. بالأمس أشرطة تسجيل لإثبات تورط إسرائيل في مقتل رفيق الحريري، واليوم مذكرات توقيف، وغدا براهين مادية من نوع آخر. «كل شيء يكشف عنه في حينه» يقول نواف الموسوي من حزب الله. جريدة «الديار» نشرت خبرا عن تسجيل في حوزة حزب الله لشخصية مقربة من الحريري يتضمن حوارًا بين هذه الشخصية وأحد شهود الزور، عن كيفية الإدلاء بشهادته. هذا نموذج، ربما، عن نوعية المفاجآت التي يمكن لحزب الله أن يقدمها في المستقبل في غمار المعركة الضارية بين الطرفين.

يرى حزب الله أن موازين القوى الداخلية والإقليمية تسير لصالحه، في حين لا يرى سعد الحريري ضرورة للتنازل السريع الذي سيغضب قاعدته الشعبية، الغاضبة أصلا. سورية تشعر بأنها في موقع قوة يجب أن تستغله لتفيد منه حلفاءها وتشد أزرهم. ليس المطلوب بالنسبة لها أن يستولي حزب الله على السلطة ككل، لأن ذلك غير وارد في التركيبة اللبنانية، لكن رئيس وزراء طيع له مزاج متوافق مع توجهات حزب الله ليس بالأمر الصعب تحقيقه. فالموالون لسورية حين تحدثهم عن صعوبة تشكيل حكومة جديدة، بدلالة الجهود الجبارة التي بذلت لتبصر الحكومة الحالية النور، تجد جوابهم جاهزا. بعد انقلاب وليد جنبلاط على «14 آذار»، وتململ بعض النواب الموالين لتغيير مواقعهم، لم تعد كفة الأكثرية راجحة بالضرورة لطرف الحريري، في مجلس النواب. الانقلاب الذي يتحدث عنه تيار المستقبل لا يسعى إليه حزب الله لأنه أنجز أصلا، ولم تعد التركيبة الأكثرية كما كانت عليه بعد الانتخابات النيابية الأخيرة.

وصول الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى لبنان في الثالث عشر من الشهر الحالي وزيارته للجنوب، كما تصريحاته النارية المعتادة، ستضفي مزيدا من الغليان على الساحة اللبنانية الفوارة. ثمة من يسعى للتهدئة من كل الاتجاهات، فالسفير السوري لدى لبنان يعتبر مذكرات التوقيف شأنا قضائيا لا علاقة له بالسياسة، والرئيس الحريري قبل أكثر من مرة تأجيل مناقشة بند تمويل المحكمة في الجلسات الوزارية، ورئيس الجمهورية لا يكف عن فك فتائل التفجير، في حين ينصح وزير العدل اللبناني إبراهيم نجار بما يتسم به من هدوء وحكمة، بـ«عدم الرقص أسرع من الموسيقى». لكن الموسيقى صاخبة يا معالي الوزير، وإيقاعاتها مجنونة وملتبسة، ويكاد الراقصون لا يميزون النغمات، ويقفزون كالمهرجين في حلقات السيرك.

في السباق ما بين التسلح والتهدئة، يصعب التكهن اليوم، على الرغم من التشاؤم الذي يطغى على الأمزجة، بما سيحمله الغد من مفاجآت، لكن الأجواء خريفية والعاصفة لن تهدأ قبل أن تقتلع كثيرا من الشجر ليزداد تصحر البلد أكثر فأكثر.